بيان توضيحي حول فتح المساجد في اوروبا

رشيد بلخدير

جاء في بيان توضيحي للمجلس الأوروبي للعلماء المغاربة حول فتح المساجد في اوروبا في ضل جائحة كورونا فيروس covid 19 مايلي :

( بيان وتوضيح حول فتح المساجد في اوروبا في الوقت الراهن)

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه

وبعد، فمع إعلان رفع الحجر الصحي تدريجيا، أوالتخفيف منه – حسب المناطق الأوروبية – توصل المجلس بأكثر من سؤال عن قضية فتح المساجد والمراكز الإسلامية في أوروبا، والعودة إلى صلاة الجماعة والجمعة، بالتناوب أو التدريج، وبشروط معقدة، وضوابط عسيرة، مما دعانا لدراسة النازلة دراسة فقهية مقاصدية، شاملة متأنية، بعيدا عن كل العواطف والأهواء، فكان هذا البيان، وعلى الله التكلان، وبه المستعان:

من المعلوم لدى الخاص والعام أنه قد صدرت فتاوى جماعية من هيئات الإفتاء المعتمدة في العالم الإسلامي بوجوب إغلاق المساجد، وقاية من انتشار الوباء؛ والتزام المسلمون بالقرارات الصادرة في هذا المجال، دون جدال أو إشكال، ونحن المسلمين في أوروبا لسنا استثناءً، ولسنا بأحرص منهم على إقامة شعيرة صلاة الجماعة والجمعة، لهذا نرى أن يبقى الأمر على ما هو عليه حتى يأذن الله بالفرج، فتفتح المساجد لكل من يرتادها، بعيدا عن كل الحلول الجزئية، والشروط الاحترازية، والتي لا نضمن معها- حسب التجربة الميدانية – عدم انتشار الوباء، مما يجعل الناس يصلون غير مطمئنين؛ بل كل واحد يخاف ممن بجانبه، فنفقد بذلك روح الانسجام والالتحام والتقارب في صفوف الصلاة، وتكون صلاتنا –حينئذ- أقرب إلى أجواء صلاة الخوف، المفصلة في كتب الفقه، وبدلا من قول الإمام -قبل تكبيرة الإحرام- : تقاربوا ، استووا، تراصوا، سدوا الفرج، رحمكم الله، فسيكون مضطرا لقول: تباعدوا ، تفرقوا .. وهلم جرا من عبارات مستحدثة تقلق المصلين، وتشغل بالهم، وتمنعهم من صلاة آمنة خاشعة. أضف إلى ذلك مشهد الكمامات والقفازين، والغسل المتواصل لليدين، والدخول من باب والخروج من باب، والحرمان من المصافحة و المعانقة والمؤانسة قبل الصلاة وبعدها، والتحفظ من كل عاطس وساعل وداخل ، وذي حساسية مرضية، واضطرار المصلين لجلب سجادات ومناديل خاصة من بيوتهم، مع ما يتبع ذلك من تعقيد وتعقيم، ووسوسة ووهم، دون أن نغفل احتمال تسرب مريض إلى الصفوف، لا تظهر عليه أعراض المرض، ولا يعلم من نفسه أنه مريض، أو يخفي نفسه، ولا يرضى أن يُعامل كمريض، مما يفتح علينا بابا من أبواب التنازع والتنافر والفتنة.

وهذه الصفة (في الصلاة الجماعية) وإن أفتى بجوازها – في ظل هذه الظروف- من أفتى من العلماء الفضلاء- ونحن نقدر فتاواهم ونحترمها- فهى لا تبعث على الاطمئنان المقصود في الصلاة، وتكلف من المشاكل ما قد لا نقدر عليه، أو ما لا يقدر عليه السواد الأعظم من المصلين.

ولو عرف المسلمون في أوروبا ماذا سيربحون بصبرهم وانتظارهم، وصلاتهم في بيوتهم مؤقتا (عملا بالرخصة الشرعية) لما وقعوا في هذا الاستعجال، أو الارتجال، ولما كلفوا أنفسهم هذا العناء، لا لشيء إلا من أجل إرضاء بعض المتحمسين، أو تأثرا بكلام بعض الواعظين، أو ما إلى ذلك من أسباب تختلف باختلاف المناطق والمساجد والقيمين، ناسين قول الله عزوجل : (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لعلمه الذين يستنبطونه منهم…) سورة النساء 83.

ومن القواعد الفقهية التي يمكن استحضارها والاستدلال بها في دعم رأي سد الذرائع ، وترجيح الانتظار، وعدم المغامرة بفتح المساجد حاليا، قاعدة: (درء المفاسد أولى من جلب المصالح )، وهي قاعدة كلية ذهبية، لا غنى عنها في باب الموازنات والأولويات، وخلاصة معناها: أن الشرع اهتم بالمنهيَّات أشدَّ من اهتمامه بالمأمورات، خلافا لما يعتقده كثير من المتدينين، فتعريض النفس والغير للضررالمحقق أو الغالب على الظن مفسدةٌ منهي عنها مطلقا، أي: دون تقييد باستطاعة. وأما صلاة الجماعة أو الجمعة أو العيدين فمصلحة مأمور بها ومرغب فيها؛ ولكن هذا الأمر مقيد بالاستطاعة أو القدرة، لقول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن:16] .

وفي مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجه وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (… فإذا أمرتُكم بشيء، فخذوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتُكم عن شيء فانتهوا) وفي رواية للبخاري ومسلم:«إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم»

وإن الأماكن الأكثر عددا، والأكثر ازدحامًا، والأضيق مساحة، والأقل تهوية، هي أكثر عرضة لانتشار هذا الوباء( وباء كورونا) -وفق ما تؤكده تقارير منظمة الصحة العالمية، ويخبرنا به الأطباء الثقات المتخصصون- وأغلب المساجد والمصليات في أوروبا من هذا النوع، كما يعلم الجميع، ولا عبرة بالنادر من المصليات والمراكز الإسلامية الكبرى، ومن ثمَّ وجب الاحتياط للأرواح، وسد الذرائع لمنع انتشار العدوى، وإيذاء المصلين، وترويع المواطنين، والرجوع بهم إلى نقطة الصفر، وتشويه صورة الدين، وتعريض بيوت الله تعالى لأمور لا تحمد عقباها.

ومن أجل دفع المفسدة وتقديم المصلحة، أُسقطت في الزمن الماضي فريضة الحج عن أهل المغرب والأندلس بفتاوى عدة من علماء المغرب، أبرزها فتوى ابن رشد رحمه الله، التي تداولها الناس كثيرا، وعملوا بها قرابة الثمانين عاما، ووافقه في إسقاط الحج عن أهل الأندلس ابن حميدين واللخمي، رحمهما الله، وذلك كله حفاظا على أمن وسلامة الناس من قطّاع الطرق في البر والبحر، أو حفظا للنفس من حروب استعرت في المشرق، كما هو معلوم.

وأما تقديم صلاة الجماعة على الجمعة، في هذا الفتح الاستعجالي أو الارتجالي للمساجد، ففيه نظر ، وذلك أن القاعدة الفقهية تقول: ( الأعظمُ إذا سقط عن الناس سقط ما هو أصغر منه ) أي: إذا اجتمع أمران أو أكثر من جنس واحد وسقط ما هو أكبر بالعذر ، سقط وزال ما هو أصغر منه رتبة وحكما. فإذا كانت صلاة الجمعة قد سقطت عن المكلفين بعذر الوباء، وأفتى العلماء بذلك، وهي فريضة عظيمة أنزل الله في شأنها سورة هي سورة الجمعة، فمن باب أولى وأحرى أن تسقط عنهم صلاة الجماعة في الصلوات الخمس وهذه موازنة في غاية الأهمية.

ومن القواعد الفقهية الكلية التي ينبغي أيضا الاستدلال أو الاستئناس بها في هذه النازلة قاعدة :”المشقة تجلب التيسير”: أي أن المشقة العارضة الظاهرة الحقيقية، (لا المشقة الوهمية الظنية) توجب الرخصة والتيسير والتخفيف، وهذه إرادة الله لا إرادة البشر ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ . ويتفرع عن هذه القاعدة الكلية، قاعدة أخرى هي: “لا واجب مع العجز”. ومن تطبيقاتها على نازلتنا اليوم أن الأصل في الصلوات أن يؤتى بها على وجهها الأصلي، زمانا ومكانا، وصفة، ومقدارا، أي بمعنى آخر: أن تطبق بالحرف، غير أن هذا التطبيق مشروط دائما وأبدا بالاستطاعة والقدرة ، وهذا ما ننساه كثيرا، ومتى عدمت تلك الاستطاعة ، أو غلب على الظن انعدامها، فإن الأمر يعاد به إلى التخفيف والتيسير، وقد يُرفع إما كليا أو جزئيا.

وبالرجوع إلى رأي الخبراء والأطباء -في واقعنا الأوروبي- فإن كلمتهم مجمعةٌ على أن وباء كورونا لا يزال حاضرا، وجاثما، ومتربصا، ومختفيا، والاحتياط منه واجب، والوقوع فيه مهلكة.

كما يؤكد الخبراء أيضا أن أكثر الناس تعرضا لخطر هذا الوباء القاتل- نسأل الله العافية- هم كبار السن، وأصحاب الأمراض المزمنة، وهم يمثلون -في الغالب- أكثر عمار المساجد، وخصوصا في الصلوات الخمس.

ومهما قيل من كلام حول الشروط والضوابط والاحترازات الواجب اتباعها عند ارتياد المساجد – في هذه الظروف الاستثنائية- فإنها لا تعدو أن تكون كلاما نظريا أو استهلاكيا يتعسر أو يتعذر تطبيقه في الواقع اليومي، لأسباب يعرفها الأئمة والخطباء والقائمون على أمر المساجد.

وفي التاريخ عبرة ودرس: فإنه لما أفتى ابن رشد رحمه الله وغيره من علماء المالكية بسقوط الحج عن أهل المغرب والأندلس (لأخطار معلومة) لم يستجب لذلك كثير من العامة، وجرفت العاطفة كثيرا من المرضى وكبار السن، وتسللوا عبر الطرق الملتوية ورحلوا إلى الحج، فهلك بعضهم في الطريق، والبعض الآخر وقع في الأسر، فاضطُر شيخ المالكية في عصره الإمام الطرطوشي أن يفتي بحرمة السفر إلى الحج، وقال رحمه الله: “فمن خاطر وحج سقط فرضه ولكنه آثم بما ارتكب من الغرر”. وهذا كله من باب سد الذرائع، ودفع المفسدة، وحفظ النفوس.

و نختم هذا البيان بالخلاصة الآتية : أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والوقاية خير من العلاج، وفي الرخصة الشرعية سعة، وفي انتظار الفرج مخرج، وفي التواضع رفعة، وفي الأناة بركة، وما نحن في أوروبا بأكثر علما و صلاحا وورعا، أو أكثر حرصا على الجمعة والجماعة من العلماء الأجلاء في المجالس العلمية، والمجامع الفقهية، والمؤسسات الإفتائية، وملايين المسلمين عبر العالم ، الذين رضوا برخصة الله، وتفرغوا لأعمالهم ووظائفهم، وتجنبوا كل المخاطرات والمجادلات، في انتظار عودة آمنة مطمئنة إلى المساجد، وعسى أن يكون ذلك قريبا، وما ذلك على الله بعزيز.

والله من وراء القصد، والسلام