اختراع تاريخ آخر للجزائر

اختراع تاريخ آخر للجزائر

25 – يونيو – 2021

 سعيد خطيبي

 28
 القدس العربي

 

لم يخل تاريخ الجزائر من تزييف، تاريخ ناقص ومبتور مثل جسد معطوب، تاريخ لا يزال مُحاطاً بجدار عالٍ يتعذر تخطيه، تاريخ كتبته أقلية على حساب الأغلبية، تاريخ سلطة حاكمة لا تاريخ سلطة الحقيقة، كل مرة نظن فيها أننا أمسكنا بخيط من خيوط الحقيقة، أننا أزلنا غموضاً، وأدركنا ما غاب عنا، يستفيق «الأخ الأكبر» من غفوته كي يمنع عنا النقاش والجدال، ويعيدنا إلى الأرض الأولى، إلى أرض القبول بما هو مكتوب سلفاً دون ممانعة، إنه تاريخ يجعل من التخوين فعلاً مبتذلاً، يجعل من التشكيك في سير رموز التاريخ رياضة جماهيرية، كم سنة مرت والألسن تخون مصالي الحاج، الذي كان أول من جاهر بمطلب الاستقلال بداية القرن الماضي، كم سنة مرت ومصالي الحاج ذكرى مشوهة في بلده، تتحمل روحه فظاظة الأحكام وانتقامية المواقف، قبل أن يُنصف ويعود إلى حظيرة الشخصيات الوطنية؟ كل تاريخ الرجل ونضالاته لم تنفع أمام غريزة المنتقمين في لحظة مظلمة من تاريخ البلد المعاصر.
ألم يعرف عبان رمضان قدراً مُشابهاً أيضاً؟ هذا الأمازيغي مهندس الثورة، الذي لم ترحمه شهوة المسيئين للتاريخ، الذي لا يزال لحد اليوم يسمع، في قبره، أسوأ الكلام! ألم يسع أحدهم للنيل من جميلة بوحيرد؟ وتجريدها من ماضيها في العمل الميداني؟ جميلة بوحيرد سمعت قولاً مشيناً وهي على قيد الحياة، وهي التي ظنت أن تحرير البلد سيكون مرادفاً للتحرر من عقدة المعمر، عقدة التماهي معه وتبني رؤاه. أحمد بن بلة لم يكن أكثر حظاً من سابقيه، هذا المحارب من حرب عالمية إلى حرب تحرير، فرئيس للدولة في عهدها الأول، ثم سجيناً في معتقل طال ست عشرة سنة، لا يزال يتحمل وزر حزب الأريكة، الذين يجلسون على آرائك ويُحاكمون التاريخ بأثر رجعي. وواصلت جوقة التشكيك في الماضي عزفها، فوصلت في الأيام الأخيرة إلى الأمير عبد القادر، نعم الأمير عبد القادر يُوضع ـ بكل برودة دم ـ في خانة الخونة! هكذا بكل بساطة يجلس نائب سابق في البرلمان، بل عميد البرلمانيين، فقد قضى ما يربو على ثلاث عشرة سنة في مقعده، يجلس أمام كاميرا ويصف عبد القادر بأقدح الكلام، يسمح سعادة النائب السابق لنفسه بذم المُقاوم، كما لو أن شيئاً لم يحصل، لندخل حلقة جديدة في هدم ما بنيناه عقوداً، في مناقضة روح التسامح، التي جاء بها الأمير واعتلاء منصة الشعبوية التي رعاها النظام في سنوات سابقة.

ما الذي يجعل جزائرياً يصف الأمير عبد القادر بالخائن؟ الأكيد أنه لن يجد ما يثبت كلامه من أدلة تاريخية، مع ذلك فهو يصر على تلك التهمة، السبب ببساطة، أنه لا يثق في التاريخ الرسمي، التاريخ الذي تروج له السلطة.

غيتوهات التاريخ

ما جاء على لسان هذا النائب البرلماني ليس جديداً، بل إنه فقط اجتر كلاماً يُقال ـ في السر ـ عن أنانية أو سوء تقدير، ليست المرة الأولى التي نسمع فيها جزائرياً يتهم الأمير «بتسليم البلاد للفرنسيين» لكنها كانت معزوفة صامتة، نكتة سمجة تمضغها الألسن في أمسيات الصيف الحارة أو في لحظات ملل، لم يتجرأ أحد على المجاهرة بها، بحكم ألا إسناد له ولا وثيقة تثبت تلك التهمة، عدا هذا البرلماني الذي ظهر في قناة فضائية محلية، نبتت مثل الفطريات، على غرار بقية القنوات الأخرى، التي ظهرت ـ فجأة – بتعداد بشري عاجز عن استقطاب المشاهدة، فليجأون إلى برامج الإثارة، واللعب على المشاعر الدينية والقومية قصد استمالة الناس، ظهر في تلك القناة، ممسكاً بقصاصات، ينثر كلاماً مثل مدّاح في سوق شعبية ينثر الأحاجي قصد كسب بعض الدنانير، وراح يخوّن يميناً ويساراً، مستفيداً من ضعف تكوين الصحافي الذي حاوره، الذي ظل جاثماً أمامه مستمعاً مستسلماً، يحرك رأسه موافقاً، لا يُجادل ولا يُناقش، بالتالي لا يمكن القول إننا شاهدنا حواراً تلفزيونياً في التشكيك في الأمير عبد القادر، بل كان كلاماً يسير في خط واحد، برلماني يتكلم، صحافي بلع لسانه، وجمهور مستغرباً كيف أن شخصاً كان ممثلاً للشعب في البرلمان، يسب ماضيه وتاريخ بلده دونما مراجعة، أو على الأقل دونما أن يعطي نفسه حق الشك. كان كلامه ينبع من يقينيات، من يسمعه يتكلم يخيل له أنه عاصر الأمير أو صاحبه، ظل يقذف كلامه منتحلاً صفة مؤرخ، أو شاهد على الأحداث، لتنتهي تلك الحفلة المصورة بخلاصة، أن الأمير عبد القادر ليس سوى عبء على تاريخ الجزائر!

السلطة رقيباً مرة أخرى

ما الذي يجعل جزائرياً يصف الأمير عبد القادر بالخائن؟ الأكيد أنه لن يجد ما يثبت كلامه من أدلة تاريخية، مع ذلك فهو يصر على تلك التهمة، السبب ببساطة، أنه لا يثق في التاريخ الرسمي، التاريخ الذي تروج له السلطة، هذه السلطة التي خونت أشخاصاً في الماضي، ثم ردت لهم الاعتبار، من يثق في تاريخ سلطة شككت، قبل فترة وجيزة، في هوية المقاوم لخضر بورقعة، على المباشرة وفي التلفزيون العام، إن التخوين هو حمض نووي تتوارثه أجيال عجزت عن تصديق أكاذيب السلطة، فلم تعد تثق فيها، ولا في رواياتها، كل شخص يضيق ذرعاً من تكرار المغالطات الرسمية وتناقضاتها، سوف يجنح إلى التخوين، فالسلطة المركزية لم تقم بدورها في إتاحة حرية البحث في الماضي، فبينما الجزائر لا تزال تطالب فرنسا بالأرشيف القديم، نجد أنها تتستر على أرشيفها، منذ الاستقلال، في هذا الجو من انعدام الثقة يصير التخوين عملة رائجة، قد نرد على صاحبها لكننا لن نستطيع منع بقعة الزيت من التمدد، وأن يتحول التخوين إلى ظاهرة، ففي واقعة الكلام المسيء الذي وجه للأمير، في الأيام الماضية، اشتعل مباشرة نقاش مهم، في استعادة تاريخ مؤسس الدولة الجزائرية، طفت تعاليق ومقالات مهمة في تتبع سيرة الرجل، وبدأنا السير، ولو ببطء، نحو إعادة تشكيل حياته كما جرت، قبل أن تتدخل السلطة ـ بشكل غير مبرر ـ وتصدر أمراً بتعليق نشاط القناة الفضائية، التي بثت الحوار أسبوعاً كاملاً.
هل كان هذا الإجراء سليماً؟ لا أعتقد، إن هذه القضية كان يجب أن تصفى بالنقاش، بالجدال، بالأخذ والرد، لا بالقرارات المباشرة، كما لو أن السلطة تقول لنا مرة أخرى ألا تاريخ عدا التاريخ الذي أمليته عليكم، يمكن القول إزاء ما حصل، إننا ضيعنا فرصة لا تعوض في فتح ملفات الماضي، لو أن السلطة التزمت مكانها في الحياد، ولم تبن جداراً عازلاً أمام المُجادلين.

روائي جزائري