إليزا شيمانتي: كاتبة إيطالية من طنجة

كاميلا سيديرنا | ترجمة وتقديم: عبد المنعم الشنتوف
حجم الخط  
0

 

تحتفي هذه الدراسة التي نقدم ترجمتها العربية بتفاصيل دالة من السيرة الحياتية والثقافية للكاتبة الإيطالية المغربية إليزا شيمانتي (1883 نابولي ـ 1969 طنجة). وتسعى الكاتبة التي تعمل أستاذة للغة والآداب الإيطالية في جامعة ليل الفرنسية إلى رصد المحطات الرئيسية في سيرة ومنجز اليزا شيمانتي، التي تميزت بعشقها الكبير للمغرب والثقافة العربية الإسلامية. وقد تجلى ذلك في أعمالها الأدبية، التي نذكر من بينها: «في قلب الحريم» «حكايات وأساطير مغربية» «أغاني النساء العربيات» و التعويذة».

النص:

تتميز المنزلة التي تحتلها إليزا شيمانتي داخل بانوراما العلاقات بين الثقافة الأوروبية والثقافة المغربية بأصالة فريدة، تميزت مسيرة حياتها منذ ميلادها في نابولي عام 1883 وإقامتها الطويلة في المغرب، التي انتهت بوفاتها ودفنها في طنجة ونضالها الاجتماعي والسياسي وكتابتها الأدبية بعشقها الكبير للثقافة والتقاليد المغربية المنبعثة من الممارسات الثقافية النسائية تحديدا، كاتبة ذات تعبير فرنسي وبهوية غير محددة، أو بالأصح عصية على التحديد وأصول إيطالية ونشأة طنجاوبة وتعدد لغوي لافت. كانت أمها كاثوليكية وأبوها ملحدا شديد التأثر بالإسلام. وكان من الطبيعي والحالة هذه أن تتسم رؤيتها لهذه الثقافة بالتعقيد سواء من الداخل أو من الخارج، خلفت لنا كما هائلا من الأعمال غير المنشورة ذات الأهمية الكبيرة على كل الأصعدة اللغوية والأدبية والتاريخية والأنثروبولوجية التي أصبحت الآن مشروعا للبحث والنشر على الصعيد الدولي. يتعلق الأمر غالبا بنصوص كتبت في كل الأجناس الأدبية من رواية وقصة وشعر ودراسات، محفوظة في مؤسسة إليزا شيمانتي في طنجة.
تحلل الكاتبة من خلال هذه النصوص المظاهر المختلفة للثقافة المغربية وتحديدا في مدينة طنجة، من أشياء وممارسات وحياة يومية وأساطير، تحدوها الرغبة في هذا السياق في إكساب هذا الموروث طابعا كونيا ودوليا هو في النهاية محصلة تمازج الثقافات الأمازيغية والمغاربية والافريقية والعربية والأوروبية. انصب اهتمامها بشكل خاص على التراث الشفهي النسائي، وسلوك وظروف النساء واستراتيجيتهن في البقاء على قيد الحياة، وتعتبر أعمالها والحالة هذه بمثابة أثرٍ للموروث النسائي، الذي ما فتأت تدونه بغاية إخراجه من غياهب النسيان.

اكتشاف الإسلام والتمازج الثقافي

غادرت إليزا مسقط رأسها نابولي ولما تتجاوز من العمر بضعة شهور صحبة أمها ماريا لويز روخيو ووالدها روزاريو غاريبالديان، الذي كان طبيبا ومفكرا حرا، أرغم على المنفى بسبب مواقفه السياسية. كانت تونس المحطة الأولى حيث شرعت إليزا في تعلم اللغة العربية والاقتراب من الثقافة الإسلامية، وهو ما تكشف عنه سيرتها الذاتية غير المنشورة التي تروي فيها بضميري المتكلم والغائب.
تجلى إيثارها للعالم الإسلامي في شخصنتها لمنارات الجوامع: كانت أشبه بزنابق عملاقة تعلو في الفضاء الشاحب وتشدو بصوت عنيف لا حدود لشجنه. انتقلت الأسرة الى مدينة طنجة المغربية ابتداء من سنة 1890 بعد أن وجهت الدعوة إلى الأب ليصبح طبيبا للسلطان الحسن الأول. كانت هذه المدينة ملتقى الأديان والمعتقدات والثقافات والتقاليد المختلفة، وقد أسهمت هذه المدينة الكوزموبوليتية بساكنتها شديدة التنوع في تحديد الرؤية المنفتحة والشاملة ووضعيتها بوصفها وسيطة ومتنقلة بين حدود الهويات. تحلل إليزا شيمانتي في بحثها الطويل الموسوم «أسطورة طنجة» الذي استهلت به كتابها «أساطير وحكايات مغربية» 1932 التنوع الثقافي الذي يميز المدينة التي تأسست على قيمة التمازج بين العالم الغربي والعالم العربي الإسلامي، بما يستلزمه ذلك من أساطير ومعتقدات وتقاليد تنتمي إلى ما هو أمازيغي وافريقي وأوروبي وعربي.
تفصح العديد من نصوص مجموعتها القصصية «فتات أفكار ومعتقدات وأحلام وجنون» التي كتبتها بعد الحرب عن ارتباطها العميق بطنجة بوصفها فضاء لكل أشكال الاختلاط والعلاقات الممكنة. حصلت على تربية شديدة الانفتاح ومتعددة ثقافيا داخل هذه المدينة. وقد تكونت بفضل مكتبة والدها الغنية وترددها على المدرسة العبرانية، التي تأسست في طنجة عام 1874 وأيضا صيدلية سوربيي في قلب المدينة العتيقة، وتحديدا السوق الداخلي الذي شكل ملتقى المهاجرين الأوروبيين. درست اللغات القديمة ونصوص الديانات التوحيدية الثلاثة. درست في السياق ذاته اللغات الحديثة: أعرف عددا من اللغات أذكر من بينها الفرنسية والإسبانية والإنكليزية والألمانية والعربية الفصحى، وجل اللهجات المتداولة في شمال افريقيا. أكتب وأتحدث هذه اللغات بطلاقة. زاد تكوينها ثراء بتأثير رحلاتها عبر أرجاء أوروبا ولما تتجاوز من العمر ستة عشر عاما. استقرت لفترة من الزمن في ألمانيا، حيث حصلت هناك على إجازة في الآداب ونشرت أول أعمالها في مدينة ليبتزغ عامي 1911 و1913.
كانت طنجة التي أصبحت منذ 1923 منطقة دولية مدينة ذات وضع استثنائي في سياق المغرب الخاضع للاستعمار وموضوعا لحماية جماعية دولية، بيد أن المدينة سوف تنتج رغم تمازجها الثقافي واللغوي ظاهرة التمييز العنصري ضد الساكنة المحلية المسلمة والموسومة بـ»الأهالي» حسب تعبير الباحث الراحل أبو بكر الكوش. ويحيل مصطلح «الأهالي» إلى الساكنة المسلمة المحرومة من الامتيازات والمنافع الممنوحة للأجانب. وكانت المحصلة أن أصبح السكان الأصليون مهمشين داخل وطنهم. نعثر على هذه الازدواجية الخاصة داخل المدن المغربية الأخرى بين المدينة المغربية والمدينة الأوروبية. ويفضل الأوروبيون الاحتماء بأحيائهم المغمورة بالحدائق، فيما يتكدس الأهالي داخل المدينة العتيقة، أو في أحياء الصفيح.
قامت إليزا شيمانتي بقلب وخلخلة المعيار الكولونيالي باختيارها الإقامة والعيش في المدينتين مع إيثار خاص للأحياء المأهولة من لدن المسلمين. ذكرت الكاتبة في سيرتها الذاتية إقامتها في تونس داخل قصر صغير في قلب المدينة العربية، وفي ظل جامع الزيتونة، وتصف في كتابها «خديجة» الحي الذي كانت تقيم فيه في طنجة، والذي كان أبعد ما يكون عن تأثير الحياة الغربية والمغمور بالهدوء والسكينة الدينية: كان نداء الصلاة الذي يذكر بمباهج الطفولة يرتفع من منارات الجوامع، مثل بخور زكي في اتجاه الله. ويهرع المسلمون الورعون ليلوذوا بسكينة المساجد والمحاريب. وتختلط أصوات المؤذنين بأصوات السقايين وسائقي الدواب والعربات. ويختلف الأمر تماما بالنسبة للمدينة الأوروبية الواقعة في الجانب الآخر أسفل التلة، المغمورة بالصخب، حيث نميز النساء والفتيات الصغيرات المنجذبات صوب الملذات والمتع الزائفة والعابرة.

المدرسة الإيطالية: من مناهضة الفاشستية إلى نصرة القضية الوطنية

اضطلعت اليزا شيمانتي بالتدريس في المدرسة الألمانية في طنجة من 1912 إلى 1914 ثم قامت صحبة أمها بتأسيس المدرسة الإيطالية عام 1914. وعند نهاية العشرينيات عمدت الحكومة الإيطالية بتأثير رغبتها في الاندماج في الإدارة الدولية لطنجة إلى تأسيس مدرسة إيطالية جديدة كان مقرها قصر السلطان حفيظ العلوي. وبعد فترة تدريس قصيرة في المقرات الجديدة، وجدت إليزا شيمانتي نفسها مضطرة إلى التخلي عن جنسيتها الإيطالية عوض تأييد النظام الفاشستي. وكانت المحصلة فصلها بمعيّة أمها من التدريس. كان ينظر إليها باحتقار من لدن ممثلي إيطاليا الفاشستية في المغرب. وكثيرا ما تمت مؤاخذتها بسبب انحدار أسرتها من جزيرة سردينيا. وسرعان ما حل عدم التسامح والعنصرية محل روح الحوار والانفتاح، وأصبحت المدرسة خاضعة لمراقبة وتسيير الراهبات اللاتي كن يفرضن الديانة المسيحية الكاثوليكية على التلاميذ، ما أثار حفيظة واستهجان أولياء التلاميذ المسلمين واليهود. وغالبا ما كان الأساتذة يتصرفون حيالهم بوقاحة.

المدرسة الإسلامية الحرة عبد الله كنون

شرعت اليزا شيمانتي بعد طردها عام 1928 من المدرسة الإيطالية في نشاطها المكثف في الكتابة والتعامل مع العديد من الصحف الصادرة في طنجة، وفي خارج المغرب. كما بدأت بموازاة ذلك في تدريس اللغتين العربية والفرنسية في المدرسة الإسلامية الحرة، التي أسسها صديقها عبد الله كنون عام 1936. كان هذا الرجل فقيها وسياسيا ومؤرخا وكاتبا وشاعرا ومؤسسا للعديد من المدارس. وكان يدعو إليزا بـ«شقيقتي» ويلقبها بالفقيهة بسبب معرفتها العميقة بالنصوص والعلوم الشرعية.
كان عبد الله كنون وجها بارزا ومؤثرا في طنجة إبان القرن العشرين، قاد كتلة العمل الوطني إلى حين حدوث الانشقاق عام 1937 وكان بالإضافة إلى ذلك أول عامل على طنجة بعد استقلال المغرب عام 1956 وأول رئيس لرابطة علماء المغرب عام 1961. وقد نشر في الفترة ما بين 1927 و1928 كتابه «النبوغ المغربي في الأدب العربي». ويتذكر الفنان المسرحي ومصمم الملابس العربي اليعقوبي الذي تابع دراسته في مدرسة عبد الله كنون، إليزا شيمانتي التي درست له اللغة الفرنسية. ويؤكد الباحث عبد الحميد بوزيد في شهادته التي ألقاها في ملتقى 1998 الخاص باليزا شيمانتي، الشجاعة الاستثنائية لهذه المرأة التي تطوعت للتدريس في مدرسة وطنية يناصبها الاستعمار أشد العداء.
كانت إليزا شيمانتي حاضرة ابتداء من سنوات الأربعينيات صحبة المغاربة في مظاهراتهم المطالبة بالاستقلال، وقد شاركت حسب شهادة المؤرخ عبد الصمد العشاب عام 1947 في المظاهرة التي شارك فيها ولي العهد المغربي الذي سيصبح في ما بعد الحسن الثاني في تحد واضح للسلطات الاستعمارية.
كانت اليزا شيمانتي ذات تعاطف قوي مع القضية الوطنية المغربية، ولم تدخر جهدا في فضح العقلية الاستعمارية، ودحض الأحكام المسبقة السلبية والعنصرية في خصوص المغاربة. ثمة نقد عميق للعقلية الاستعمارية في روايتها «ماريا كرازيا والعبقري» كانت بطلة الرواية في رحلة جوية تصل فرنسا بالمغرب هربا من أهوال الحرب العالمية، حين وجدت نفسها وهي تصغي إلى حوار بين سيدتين أوروبيتين يرشح بالتمثيلات النمطية العنصرية ويشف عن جهل فاضح ويقابل بين الأوروبيين المتحضرين والمغاربة المتوحشين. وقد حرصت باطراد على مواجهة هذا الاحتقار العنصري حيال الأهالي بمعزفتها العميقة بالمغرب وثقافته وكرمه وحسن وفادته، الذي شكل عصب كتابتها الأدبية.
أفصحت إليزا في العديد من نصوصها المنشورة وغير المنشورة عن حبها للإسلام وفهمها للروح العربية. تتقدم الكتابة الأدبية عند شيمانتي بوصفها تعويذة سحرية تتيح فهم الروح السرية للمغاربة. ويتمثل العالم الذي ترغب في كشفه لنا في عالم النساء المغربيات وفضائهن المتمثل في «الحريم» الذي كان موضوعا لاحتقار متأسس على مسبقات سلبية عدة لبعض الكتاب الغربيين بالدرجة الأولى. ويشكل الحريم الذي تكشفه لنا شيمانتي أحد الفضاءات الرئيسية التي تتخلق فيها حكايات وأساطير وأغاني النساء المغربيات. وهو أيضا فضاء التقاليد الشفهية النسائية التي حرصت شيمانتي على تدوينها وإعادة كتابتها وترجمتها في إطار مختبر كتابتها الهائل.