الحب العلمي… المرأة التي خلقت طه حسين من جديد!

آثرت الكاتبة والإعلاميّة البحرينية بروين حبيب إفراد مصنفها الجديد «أبصرت بعينيها» (دائرة الثقافة والسياحة، مركز أبوظبي للغة العربية، 2023) لمعاينة المكانة التي احتلتها المرأة في حياة طه حسين وأدبه. ومردُّ ذلك إلى وعيها بتهجس طه حسين المبكّر بقضية المرأة؛ إذ ما برح يتوسل فعل الكتابة سلاحا لمقاومة كل ضروب الاستبداد (=التجريم، التحريم، التأثيم) التي تحول دون ضمانها لحقوقها، والظفر بالحق في حرية في تشكيل ماهيتها، وتحديد مصيرها.
فمن خلال هذا المصنف، راهنت بروين حبيب – وفي أقل تقدير – على تحقيق غايتين رئيستين: «أولاهما أن يكون مدخلا للتحسيس بأهمية حضور المرأة في حياة طه حسين وفي أدبه، بما يساعد القارئ على الإلمام بعمق هذه العلاقة، والدارس المتخصص على التوسع في إجرائية تقصي جزئيات إشكال نظري ما. وثانيهما الإشادة بشخصية رجل، كرّس سلطته العلمية لنصرة المرأة كي تنال حقها في التعليم، وتمحو عار الأمية، مشجعا الطالبات على ارتياد الجامعة، بندائه التاريخي: «أطلقوا للمرأة حريتها، وسوُّوا بينها وبين الرجل، وانتظروا تروا الأعاجيب».
لا ريب في أنّ المرأة شكلت علامة فارقة في حياة طه حسين بدليل العبارة الشهيرة التي صرح بها في حق زوجته سوزان: «المرأة التي أبْصَرْتُ بعينيها» والتي تُعَدُّ أعظم دليل على دلالة حضورها إلى جانبه؛ إذ بفضلها أقبل على تلمس العالم والنظر فيه: «كان هو في السادسة والعشرين من عمره وهي في العشرين، وكان هو أول أجنبي تراه الفتاة، وهي أول بنت تزوره، وتقرأ له الأدب والتاريخ لشهرين متتابعين». كان صوت سوزان العذب بالنسبة لطه حسين، سلاحا يواجه به رعونة صوت الواقع (الجامعة، المجتمع، الثقافة) يقول طه حسين في مذكراته: «ليس في نفسه إلا شيء واحد، هو ذَا الصوت العذب الذي طالما قرأ عليه آيات الأدب الفرنسي، وهو الآن يناجيه في حزن أليم… وإذن فلن نلتقي بعد أن ينقضي الصيف! وقد صحبه هذا الصوت أيام السفينة يناجيه مناجاة اليأس مرة، ومناجاة الأمل مرة أخرى، يشفق عليه من الأحداث، ويمنيه الانتصار والخروج منها» (أوردته بروين حبيب). هكذا، تمكنت «سوزان» من إعادة خلق طه حسين بالقوة، تقول بروين حبيب: «وجملة «سيخلق خلقا جديدا» هي أقرب إلى الواقع منها إلى المجاز. فمن يومها تغيّرت حياته تماما، ليرتبطا كتوأمين ساميين لم يفرق بينهما إلا الموت. وقد كان لاهتماماتهما المشتركة، وخاصة منها ولعهما بالقراءة، دور كبير في تعميق صداقتهما العقلية، وفي ديمومة هذه العلاقة وثباتها». فعلى إثرها انبجس بينهما نموذج استثنائي من نماذج الحب، عرّفته بروين: بالحب العلمي، مسوغة اختيارها هذا، بمقطع أورده طه حسين في سيرته الأثيرة «الأيام»: «وانظر إلى فتاة وفتى في أول عهدهما بالخطبة ينفقان أكثر النهار في درس اللاتينية حين يصبحان، وفي قراءة الترجمة الفرنسية لمقدمة ابن خلدون حين يرتفع الضحى. فإذا جاء وقت الغذاء ألما بالمائدة فأصابا شيئا من طعام، ثم أقبلا على تاريخ اليونان والرومان فقرآ منه ما شاء الله أن يقرآ. فإذا كانت الساعة الخامسة انصرفا من تاريخ اليونان والرومان إلى الآدب الفرنسي فقرآ منه ما شاء الله أن يقرآ كذلك، ولا ينصرفان من القراءة إلا ريثما يخرجان للتريض خارج القرية.. ساعة أو أقل من ساعة». (أوردته بروين حبيب).

من الواضح أنّ تضحيات سوزان تجاه طه حسين، تنم عن حبها له حبّا علميا بالأساس، إذ عبّرت غير ما مرة عن إعجابها بعقله لا بقلبه، تقول بروين حبيب: «لم تطل فترة خطبتهما، فقد تزوجا بسرعة، رغم أنّ تعليمات الجامعة المصرية كانت تمنع زواج الطالب المبتعث، لكنه حصل على استثناء.

لم تجد سوزان سندا لها أثناء خوضها معركة التمرد على عائلتها التي أبدت رفضا قاطعا لعلاقتها بطه حسين (كيف؟ من أجنبي؟ وأعمى؟ وفوق كل ذلك مسلم؟ لا شك أنك جننت تماما») سوى عمها القس الذي طالما عبّر عن حبه لطه حسين وتقديره له التقدير العظيم: «بوسعك أن تنفذي ما عزمت عليه.. لا تخافي، بصحبة هذا الرجل يستطيع المرء أن يُحَلِّقَ بالحوار ما استطاع إلى ذلك سبيلا، إنه سيتجاوزك باستمرار» (أوردته بروين).
من الواضح أنّ تضحيات سوزان تجاه طه حسين، تنم عن حبها له حبّا علميا بالأساس، إذ عبّرت غير ما مرة عن إعجابها بعقله لا بقلبه، تقول بروين حبيب: «لم تطل فترة خطبتهما، فقد تزوجا بسرعة، رغم أنّ تعليمات الجامعة المصرية كانت تمنع زواج الطالب المبتعث، لكنه حصل على استثناء. ويروي طه حسين بالتفصيل كيف ساعدته في دراسته وكأنها طالبة معه متفرغة له تماما، تقرأ له أصعب النصوص اللاتينية، وتنتقل معه من الأدب إلى التاريخ إلى اللّغة إلى الفلسفة، إلى أن توج ذلك الجهد بحصوله على الليسانس، وكان أول طالب مصري يحصل عليهما، وبعد ذلك الدكتوراه». تُسَجِّلُ بروين حبيب حضورا شحّيحا لنساء عائلة طه حسين (الأم: رقي موسى محمد/ الأخوات: جلفدان، أمينة، فاطمة، زينب) ضمن تأليفه، إذ وقفت على ضرب من البرود يكتنف حديث طه حسين عن أمه وأخواته (=الجهل، التأخر التاريخي) مقارنة مع حديثه عن سوزان (العلم، الثقافة، الحياة الراقية). ومردُّ ذلك حسب بروين حبيب، إلى أن طه حسين ما انفك يُحَمّل مسؤولية ما أصابه من عمى إلى أمه (=انعدام الوعي، ازدراء الطبيب، الجهل بقيمته، علم النساء وأشباه النساء) يقول طه حسين: «لنساء القرى ومدن الأقاليم فلسفة آثمة وعلم ليس أقل منها إثما، يشكو الطفل، وقلما تعنى به أمه… فإن عنيت به أمه فهي تزدري الطبيب أو تجهله، وهي تعتمد على هذا العلم الآثم، علم النساء وأشباه النساء. وعلى هذا النحو فقد صببنا عينيه» (الأيام، أوردته بروين حبيب). لم تكتف بروين بالوقوف على علاقة طه حسن بزوجته وابنته (=أمينة) ونساء عائلته، بل وقفت على علاقته بتلميذته سهير القلماوي: أول امرأة مصرية حصلت على الماجستير والدكتوراه في الأدب، ويعود الفضل في ذلك إلى طه حسين، الذي غير نزوعها من الطب إلى الأدب. كما وقفت على علاقته بمي زيادة، التي لم تبادله الحب نفسه والغرام بعد أن ظفر جبران بقلبها وبأمينة السعيد، ودرية شفيق، رمزي النضال النسوي في مصر.
لتعرج بعد ذلك على عقد مقارنة بين حضور المرأة العربية «المعذبون في الأرض» «شجرة البؤس» «دعاء الكروان» وحضور المرأة الغربية (=قصة الحب الضائع) في أدب طه حسين، لتخلص على إثر ذلك إلى إعجاب طه حسين بصورة الفرنسيات وتحررهن، تقول بروين حبيب واصفة حال المرأة العربية في أدب طه حسين: «أما المرأة في أدبه فقد كانت نماذجها في الأغلب منسحقة خاضعة مستضعفة. حضور الرجل طاغ عليها مهمل لها، فمنهن المقتولة جوعا وفقرا كأم تمام، والمقتولة جنونا كنفيسة، والمقتولة استغلالا كجلنار».
تراهن مؤلفات طه حسين على نقد الثقافة الذكورية (=جرائم الشرف، تعدد الزوجات، مصادرة حق البنت في تقرير مصيرها، استغلال الأغنياء للخادمات، العبودية المقنعة لذوي البشرة السوداء، إلخ) من جهة، وإبراز تأثر المرأة العربية بالثقافة السائدة (= الخرافات السحر، الانصياع لشيخ الطريقة، إلخ) من جهة أخرى. تقول بروين: «قد نجد انحيازا من طه حسين للمرأة الغربية، وهذا مفهوم منه، فقد قارن في نفسه بين امرأة كسوزان زوجته بقوة شخصيتها وثقافتها وحبها وامتلاكها لقرارها، بل ولقراره أحيانا، ونساء مجتمعه كالبنت التي زوجوها لرجل في سن والدها، أو تلك التي اعتدى عليها زوج خالتها، وغيرهن كثيرات، فليس غريبا أن ترجح الكفة لصاحبات سوزان، ويصبحن مثلا على الشرقيات اتباعه».

كاتب مغربي