العلاج بالصوت

طوال سنوات المنفى، هذه التي نافت على أكثر من الأربعين عاماً، وتقاسمتها مدن وعواصم ومحطات كثيرة، كان الوقت يمر أحياناً ببطء قاتل، إذا كانت الأيام غير سعيدة وثقيلة، وتشوبها غيوم من الأسى والشوق والفراق، الى الناس والأهل والمنزل الأول، وتمر سريعاً إذا كانت الأيام جذلى، مرحة وأنيسة. في كلتا الحالتين من هذا العالم السايكولوجي المنقسم على نفسه، حار وبارد، موجب وسالب، أبيض وأسود، أو حلو ومر، في كلتا الحالتين كان المنفي يحتاج الى سند مؤنس، الى داعم أليف، وإلى معنى ما، يؤازره في طرقات المنفى الصعبة، طرقات يمرّ بها المنفي فيتعثر هنا وينهض هناك، ويرمم من حاله هناك، في كل تلك الظروف والأحوال والمقامات، كان لنا دائماً ذلك الصوت المُساند والمؤازر والمُلهم في تلك الأوقات المؤسية، أو السلسة، وهي قليلة في غالب الأحيان في حياة المنفي. كان هذا الصوت المرهم هو صوت أم كلثوم، كوكب الشرق، وسيّدة الغناء العربي، هذا الصوت لطالما حنّ علينا، وربّت على أكتافنا، وطمأننا، وطرد عن أرواحنا وحشة المنفى، ظلام المنفى، عبوسه، مصائبه التي لا تعد ولا تحصى، حين يمر قدرنا، وهو حامل حقائبه في المدن الباردة، والمحطات الغريبة، والشوارع غير الأليفة، تلك التي يراها للمرة الأولى.
لذا بدا لنا صوت أم كلثوم هو المنجى، هو الأقرب إلينا، حين نضع الحقائب ونتحرر منها، حين نأوي الى لقمة ساخنة، وفراش دافئ، وسقف يحمي من الريح والبرد والثلج والمطر، أو حين نهرب من كل أفانين وسلوك المنفى، الذي يتحوّل أحياناً الى شرس وقاس ومتذمّر، فيتصرّف بطرق غير لائقة، وغير مهذّبة، وغير إنسانية، فيطردك من هنا الى هناك، أو يسدّ في وجهك الأبواب والنوافذ والمداخل والفجوات، ويقطع عليك الطرق، كقاطع الطريق، ولا يجعلك تعبر وتمر الى الجهة الأخرى، فهو بيده المفاتيح، مفاتيح مصيرنا، وبيده الحلول المؤقتة، أو الدائمة إذا ابتسم مرة لنا، فابتسامته غالباً تكون متكلّفة، يدفع بها في اتجاهك على مضض، ودون شعور كامل بالرضا، بل يظل حذِراً وتشوب تصرّفاته الكثير من المحاذير، والرؤى المشوّشة حولك، وحول قدومك، وحول اختيارك هذا المكان.
نحن كنا نختار لأوقاتنا في هذا المكان أو ذاك، صوت السيّدة، كوكب الشرق أم كلثوم، كي يُعين ويحمي وينفذ الى الداخل ليغسله، من عوالق المنفى، من تراب الزمن، وغبار الدهر المتراكم في الروح، كان الصوت المُنغّم وهو يتغلغل فينا، يُريحنا، فنسرح معه، نتيه، وننسى ما فعله القدر بنا، وما خلّف البعد لنا من جروح، فصوت السيّدة، كان يُعالج ويُداوي ويُشفي من قروح المنفى.
في باريس، كنت ألجأ في وحدتي إليها، هي كانت تطمئنني، وتحنوعلى وحدتي، وتُداري عزلتي، في عالم جديد عليّ، لم تكن لديّ مُسجّلة، فأنا كنت حديث عهد في المنفى، وليست لديّ أي أغراض وممتلكات شخصية، سوى ملابسي التي كنت أرتديها، فكنت أذهب إلى صديق لأسمعها عنده، أو أذهب الى مقهى تونسي، كنت أعرفه، كان يضع أشرطة للسيّدة، فكنت أطيل الجلوس بجانب كأس شاي أو قهوة، صاحب المقهى عرف علّتي، فكان لا يتضايق مني أو يتذمّر، كما هي عادة نوادل المقاهي، في ذلك الزمن الباريسي، من نهاية السبعينيات.

لقد لازمني صوت أم كلثوم، منذ تفتّحتْ عيناي على الدنيا، مذ كنا شباباً في مطلع العشرين، وكان هذا الصوت دائماً يتمشى ويجلس ويسهر معنا، في مقاهي «شارع الرشيد» كان يتخذ مكانه العالي، وكذلك في شارعي «أبي نواس» و«السعدون» حيث الحانات النهرية المطلة على دجلة، وحيث النوادي والجمعيات مثل «جمعية الموسيقيين» و«جمعية التشكيليين» و«نادي العلوية» و«اتحاد الأدباء».

في بيروت المسألة كانت أسهل، كنا شبيبة نسكن في منزل مشترك، كانت لدينا مسجّلة واحدة، نسمع بها فيروز من أجل الفطور صباحاً، والسيّدة لليالي المتطاولة، والظهيرات الجميلة، وكان صوت السيّدة هو النزيل الدائم لنا، في كل السهرات والليالي والظهيرات الخدِرة.
في بغداد كنت شاباً في أوائل العشرينيات، كانت هناك «مقهى أم كلثوم» في نهاية «شارع الرشيد» بمحاذاة «سوق الهرَج» لا تزال المقهى قائمة حتى الآن، كنت أختلف إليها أنا وأصحابي من الشعراء، والأدباء، والكتاب، والفنانين في تلك السوانح من الأيام البغدادية، كانت صور السيّدة تغطي جدران المقهى كلّها، وصاحب المقهى كان مولّهاً بها، وله صورة معها وهو منحن يقبّل قدميها، والسيّدة بالطبع كانت تتمنّع، وترفض تصرّفات كهذه، حفاظاً على الروح الإنسانية لمعجبيها. حين تزوّجتُ في دمشق، جمعتُ كل ما كنت أحبّه من أغنيات «كوكب الشرق» فكان قد أصبح لدينا مسجّلة خاصة بالبيت، فهرعنا نجمع كل ما خفق القلب له، من أغنيات السيّدة. وكان كذلك هو الأمر في قبرص، حيث العاصمة نيقوسيا، كان صوت كوكب الشرق يخترق الأوقات القبرصية، ويعبر الى جبل بياترس، فكانت شواطئ لارنكا وليماسول وبافوس وأينابا تردد أغنيات كوكب الشرق أم كلثوم، لم تكن هناك نزهة لنا في البراري، أو في ظهيرات بحرية على شواطئ قبرص الذهبية، إلا وكان معنا صوت السيّدة، فهو الرفيق الثالث، المؤثّر والمُهم، والشخص المتسيّد مع أفراد العائلة، وكذلك بين الأصدقاء الذين كانوا مثلنا، يفسحون المجال للصوت، بأن يأخذ موقعه، ومكانه، ومجلسه الأول في الصدارة.
لقد لازمني صوت أم كلثوم، منذ تفتّحتْ عيناي على الدنيا، مذ كنا شباباً في مطلع العشرين، وكان هذا الصوت دائماً يتمشى ويجلس ويسهر معنا، في مقاهي «شارع الرشيد» كان يتخذ مكانه العالي، وكذلك في شارعي «أبي نواس» و«السعدون» حيث الحانات النهرية المطلة على دجلة، وحيث النوادي والجمعيات مثل «جمعية الموسيقيين» و«جمعية التشكيليين» و«نادي العلوية» و«اتحاد الأدباء». في كلّ هذه الأمكنة، كان الصوت يرسل لنا نبراته الساحرة، عبر الموجة النغمية، من دفق صوت السيّدة، الخارق والمؤثر والفاتن، لأجيال وأجيال.
هذا الصوت منذ بدء انطلاقته، سحر المحيط بما يملك من مؤثرات ميلودية نادرة، ولكونه هكذا، انغمس هذا الصوت باكراً بنغمات أهم موسيقيي فتراتها الذهبيّة، وانخرط في متون أهم شعرائها، فرافقه وهو لم يزل بكراً ويانعاً، وهو في بدايات سطوعه الموسيقار والملحن أبو العلا محمد، الذي لحّن « وحقك أنتَ المنى والطلب» ثم الشيخ المدهش زكريا أحمد «هو صحيح الهوى غلاب» وغيرها الكثير، ثم دخل المجدد الموسيقار محمد القصبجي ليلحن النوادر، كأغنية «رق الحبيب» و«مدام تحب بتنكر ليه» والعظيم رياض السنباطي الذي لحّن لها الجواهر واليواقيت من أغانيها، التي تتجدد كلما أنصتُ إليها، وسمعتها من جديد، شيء فذ حقاً، وخارق وغير عادي، ولا يُمل، وأعني الجواهر الموسيقية، التي قدّمها السنباطي لهذا الصوت المُعجز والتاريخي.
وفجأة ونحن نشبّ وندخل مرحلة الشباب، والتدرّج العاطفي، والهيمان بعوالم الأنثى، دخل العبقري الآخر على الخط، ألا وهو الموسيقار محمد عبد الوهاب، ليضيف لمنابع هذا الصوت ومجراه، لحنه التاريخي المنتظر «أنت عمري» ليردفه في ما بعد بسلسلة ذهبية، من الأغنيات التي لا تنسى، وحين ينأى الصوت قليلاً عن موسيقار الأجيال، يقع مع عبقرية نادرة أخرى، تتمثل بالموسيقار بليغ حمدي، المجدد واللاعب الأمهر بالآلة الشرقية والغربية، مقدّماً تحفته النادرة «سيرة الحب» هذا دون أن ننسى المبتكر الأحدث، محمد الموجي الذي لحّن لها القليل، كان أبرزها أغنية «اسأل روحك» لهذا رحت أسائل نفسي دائماً، كلما سمعت صوت السيّدة أم كلثوم، ما السرّ الذي يحمله هذا الصوت الجامع؟ هل يكمن في المساحة الصوتية المديدة؟ أم في النبرة الساحرة، المتكافلة بين النغم والكلام؟

كاتب وشاعر عراقي
ANAHDA INTERNATIONAL TV