الفرنسية آني كوهن-سولال في «أجنبي يُدعى بيكاسو»: الفنان الكبير بين صالات المعارض وتقارير الشرطة السرية

لعلّ فئة قليلة فقط من المعجبين بأعمال الفنان الإسباني والعالمي الكبير بابلو بيكاسو (1881-1973) تعرف أنه قضى في فرنسا نحو 70 سنة، وتوفي فيها أيضاً، ولكن دون أن يحصل على الجنسية الفرنسية. فالسلطات لم ترفض طلبه لحيازة الجنسية في سنة 1940 فقط، بل ظلّ منذ وصوله إلى باريس في 25 تشرين الأول (أكتوبر) 1901 وحتى سنوات عديدة بعد الحرب العالمية الثانية خاضعاً للمراقبة الدقيقة من المخبرين التابعين لشرطة محافظة باريس. وكان مصدر الشبهة الأولى أنه وفد إلى فرنسا تحت رعاية ابن بلده وتاجر اللوحات الكاتالوني بيير ماناش الذي كان معروفاُ بميوله السياسية الفوضوية، مما استدعى من مفوض الشرطة آنذاك، أندريه روكييه، أن يستخلص التالي في تقريره عن الأجنبي الإسباني الشاب بابلو رويز بيكاسو: «يمكن الاستنتاج بأنه يشاطر أفكار مواطنه ماناش الذي ألجأه، وبالتالي من المحتم اعتباره فوضوياً».
هذه واحدة من المعلومات المثيرة التي توصلت إليها الكاتبة الفرنسية آني كوهن – سولال في كتابها الهامّ والمثير «أجنبي يُدعى بيكاسو»، الذي صدر بالفرنسية واعتُبر سبّاقاً تماماً إلى إماطة اللثام عن هذا الجانب المجهول، القاتم والمحبط والعجيب، من حياة واحد من أشهر الفنانين التشكيليين الإسبان والعالميين. وبأناة المؤرّخ وعين الناقد التشكيلي والباحث الرصين (وهي التي تحظى بمكانة مرموقة بين كبار الاختصاصيين في فلسفة وأعمال وحياة الفيلسوف الفرنسي الوجودي جان – بول سارتر)، نقبّت كوهن – سولال في مئات المحفوظات المتراكمة في أرشيف شرطة باريس، إلى جانب ما يتوفر من وثائق عن بيكاسو في متحف أورساي الباريسي ومتحف بيكاسو نفسه، وخرجت بحصيلة ثمينة بقدر ما هي مدهشة أو حتى صادمة في تفاصيل كثيرة.
يتألف الكتاب من 59 فصلاً تتوزع على خمسة أجزاء، بحيث يغطي كلّ جزء فترة محددة من حياة بيكاسو ذات طابع زمني يشمل أيضاً تطورات أسلوب الفنان وولادة عدد من أبرز أعماله: 1900-1906، متاهة باريس؛ 1906-1923، ريادة الاتجاه الطليعي؛ 1919-1939، ذروة تسلط الشرطة والفنان المضطرب؛ 1939-1944، خمس سنوات على حافة الهاوية؛ و1944-1973، الفنان بطلاً. وبذلك فإنّ صفة التحقيق، التاريخي والبوليسي على نحو ما، تتخذ على مدار الفصول منحى تحليلياً يمزج بين المحطات الفاصلة في حياة بيكاسو، وبين المنعطفات الكبرى في مساره الفنّي، وبالتالي يجوز اعتبار كتاب كوهن – سولال سيرة حياتية ونقدية في آن معاً، ينهض امتيازها على ما يتفاعل من علاقات بين العناصر السردية والمعطيات الفنّية، متواشجة تماماً مع مسارات الإثارة في الخطّ البوليسي.
ومنذ السطور الأولى في مقدمة كتابها تشير كوهن – سولال إلى أنّ ساعات قليلة انقضت على وصول بيكاسو إلى باريس، خريف 1900، حتى جندت الشرطة 4 مخبرين كُلّفوا بمتابعة الفتى الإسباني على نحو لصيق، وكتابة تقارير عاجلة ومكثفة حول تحركاته في المدينة عموماً، وفي حي مونمارتر وضمن أوساط الجالية الكاتالونية هناك خصوصاً. تكدست التقارير، ومحاضر التحقيق، ورُخَص السكن، والصور الفوتوغرافية، والبصمات، وإيصالات آجارات البيوت، وطلبات الإقامة، ونسخ الرسائل الواردة، والمعلومات حول أقاربه وأصدقائه ومعارفه، والشهادت/ الإفادات حول أرائه السياسية… وإذْ تعدّد كوهن – سولال هذه، وسواها كثير مذهل، فلكي تشدد من جانب آخر على أنها لم تعثر في كلّ تلك الأكداس على إشارة واحدة إلى مخالفة قانونية أو جنائية، «ما خلا أنّ الرجل «لم يكن فرنسيّ الجنسية» كما تكتب.
في مغزى آخر لسيرورات الرصد هذه، تتوصل كوهن – سولال إلى طبيعة النظام القائم في فرنسا خلال تلك الحقبة، غير القصيرة في الواقع، وعلى أصعدة سياسية وأمنية وبوليسية لا تغيب عنها ملامح الرهاب من الأجنبي والنزوع العنصري إلى تصنيف الآخر أو فرض الرقابة عليه لاعتبارات لا صلة تجمعها مع أية مخالفة للقوانين المرعية. وتسوق المؤلفة عبارات تضمنتها بعض التقارير لا تترك مجالاً للشكّ في نزوعات تأثيم الأجانب لاعتبارات سياسية ومالية بعضها يمكن أن تبدو شوفينياً، مثل القول بأنّ بيكاسو «لم يقدّم خدمة لبلدنا خلال الحرب رغم تمتّعه بصفة ما يُسمى بالفنان الحديث»؛ أو «كسب ملايين الفرنكات واحتفظ بها في الخارج»، أو أنه اشترى فيللا في الجنوب «مدعياً التمسك بأفكار تميل إلى الشيوعية». وكذلك يذكر أحد التقارير أنّ بوّابة البناية التي يقيم فيها أفادت بأنه «يتحدث لغة فرنسية سيئة للغاية حتى أنه من الصعب فهم ما يقول»؛ وبالتالي: «هذا الأجنبي غير مؤهل لحيازة الجنسية، وفوق هذا يتوجب النظر إليه كشخص مشبوه للغاية من وجهة النظر الوطنية».
وفي ميدان آخر تشير المؤلفة إلى أنّ الأعمال الـ64 التي أنجزها بيكاسو في ربيع 1901، والتي تُعتبر نفائس نادرة وثمينة، وبيعت أو تُباع اليوم بعشرات أو مئات الملايين من الدولارات ويتباهى باقتنائها أثرياء العالم، كانت في حينه بمثابة وثائق إدانة سياسية لفنان شاب لم يكن قد ارتكب من ذنب سوى أنه لم يكن يقيم في فرنسا كمواطن فرنسي الجنسية. ذنب آخر هو أنّ موهبته كانت عالية وجلية بحيث سرعان ما انتبه إليها كبار رجال الآداب والفنون في فرنسا، أمثال غيوم أبولينير وماكس جاكوب وجان كوكتو وجورج براك، وذلك قبل أن يحظى باهتمام بالغ من الشاعرين لوي أراغون وبول إيلوار اللذين أقنعاه بالانتساب إلى الحزب الشيوعي الفرنسي. وقد يكون هنالك ذنب ثالث تمثّل في تلهف الفنان الشاب على المجيء إلى باريس تحديداً، بالنظر إلى أنها كانت عاصمة الأنوار والفنون والحركات الطليعية والحداثية.
ومن فصول الكتاب الأكثر إضاءة لشخصية بيكاسو النضالية، ثمّ السياسية والاجتماعية بالتالي، هنالك الفصل 45 الذي يرصد النظرة الشعبية إلى بيكاسو من نيويورك، بوصفه ألدّ أعداء هتلر والاحتلال النازي لفرنسا. الفصل 56 يسجّل الآراء من موسكو، حيث استقرّ بيكاسو كرمز للنضال ضدّ الجنرال فرانكو ودكتاتورية اليمين في إسبانيا. وأما الفصل 47 فتخصصه كوهن – سولال لموقع الفنان الكبير في الوجدان الفرنسي عموماً، وفي مناطق محددة مثل غرونوبل وليون والأنتيب حيث كان متبرعاً سخياً وناشطاً على مستوى المعارض وتدريس الفنون. ومع ذلك فإن سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، خلال 1947 وحتى 1955، قد شهدت استمرار الكثير من ممارسات التضييق التي رسختها الشرطة عند مطالع القرن.
وفي الفصل الذي تخصصه كخاتمة للكتاب، تتوقف كوهن – سولال عند تفصيل ذي مغزى سياسي وإيديولوجي ورقابي بالغ الأهمية، وهو أنّ وجود زعيم الحزب الشيوعي الفرنسي موريس توريز وسواه من الشيوعيين كوزراء في حكومة شارل دوغول أتاح بعض التخفيف من رقابة الشرطة على بيكاسو. لكنّ الهراوة انتقلت من فرنسا إلى الولايات المتحدة متمثلة في شخص إدغار هوفر رئيس مكتب التحقيقات الفدرالي، الذي حرّم الانتماء إلى الأفكار الشيوعية واعتبر الشيوعيين أعداء أمريكا والعالم الحر إجمالاً. وكان بيكاسو قد نشر مقالة بعنوان «لماذا أصبحت شيوعياً»، في المجلة الماركسية الأمريكية «نيو ماسز» (الجماهير الجديدة)، فقرر هوفر وضعه تحت الرقابة أسوة بعشرات الكتّاب والفنانين في الولايات المتحدة ذاتها.
من جانبها كانت المخابرات المركزية الأمريكية أكثر مهارة من رجال هوفر، فعمدت إلى تأسيس منظمة خاصة باسم «السلام والحرية» تتولى في فرنسا مهام التشويش على أنشطة الشيوعيين الفرنسيين في الميادين الثقافية تحديداً، وإنتاج حملات دعائية مناهضة كان أحد ملصقاتها الشهيرة قد حمل نسخة مشوهة من حمامة بيكاسو الشهيرة التي رسمها خصيصاً لمؤتمر مجلس السلام العالمي المنعقد سنة 1940. وبالطبع فإن مناخات التضييق التي خلقها السناتور الأمريكي جوزيف مكارثي وعُرفت تاريخياً باسم المكارثية، لم تكن بعيدة عن هذه الجهود الرقابية المنظمة.
ولا تغلق كوهن – سولال صفحات كتابها المثير إلا بعد إضافة عدد من الملاحق المهمة، بينها لائحة 27 جهة أرشيفية مختلفة عامة أو شخصية رجعت إليها في أبحاثها، إضافة إلى عدد من السجلات والمقتنيات الأرشيفية الشخصية. ملحق آخر هو 13 صورة فوتوغرافية أو تمثّل لوحات بيكاسو ذات الصلة بما تسرده فصول الكتاب. وأما الهوامش فإنها غزيرة وغنية وعريضة النطاق، بل هي بمثابة «كشكول» نقدي وتعريفي بالمراحل التي شهدها فنّ بيكاسو.
وتبقى إشارة أخيرة إلى أن التاريخ لم ينصف الفنان الكبير لجهة ما تبوأ من مكانة رفيعة كواحد من أهمّ وأعظم الفنانين التشكيليين والرسامين في القرن العشرين، بل على صعيد الحكاية التي تخص حرمانه من الجنسية الفرنسية تحديداً. ففي سنة 1958 كان جورج بومبيدو، مدير مكتب الرئيس الفرنسي الجنرال دوغول والذي سيصبح رئيساً لفرنسا هو نفسه سنة 1969، قد كتب إلى بيكاسو مقترحاً عليه حيازة الجنسية الفرنسية. غير أنّ بيكاسو لم يكترث حتى بالردّ على البريد، مفضلاً ملازمة صفته الأولى العريقة: أجنبي يُدعى بيكاسو!
Annie Cohen-Solal: «Un étranger nommé Picasso»
Folio, Paris 2023

ANAHDA INTERNATIONAL TV