اللعب مع الزمن

يقترح علينا «الجوهر الشعري»، سبلا استثنائية ونوعية للاقتراب من إشكالية الزمن، باعتبارها إشكالية أبدية، لن تكف عن استدراج مختلف المسارات الإبداعية والفلسفية إلى مضايقها، دون أن تنعم عليها بما تيسر من فيض الطمأنينة واليقين. فالزمن يستوطن روح التساؤل البشري بناء على تحيره المزمن، من غموض المسافة الفاصلة بين حد الميلاد وحد الموت. إلا أنه /الزمن، وبقوة النسيان الممسك بتلابيب الكائن، يظل موجودا هناك، على مسافة واسعة من الوعي الحياتي، فلا تخترق شحنته الذات إلا بموجب انفجار تلك الملمات العاصفة، والطارئة على سيرورة معيشها، كي يأخذ/الزمن – وعلى حين غرة – شكل «عدم» حارق تنمحي بموازاته المسافة الممتدة بينه وبين الذات. إنه وتبعا لذلك، عبارة عن جماع أزمنة تتهافت على أجساد الكائن وأرواحه. وبالنظر لتعدد عوامل انبجاسها، ووفرة ما تثيره من تداعيات ومن أحوال، فإن «الزمن» ككل، بمفهومه التعاقبي والدائري، يضيق بمستويات تنوعها.
فضمن الخطابات الدينية والفلسفية، وكذلك الفيزيائية والإبداعية، التي تتخذ منه إطارا مركزيا لاشتغالها، تتفرع وتتشعب ما لا حصر لها من مقولاته المتعارضة والمتناقضة، حيث سيكون بوسعنا الاستئناس بتوصيفاته المراوحة بين الحضور والعدم. كما سيكون بوسعنا تلمس ما يتخلل إيقاعاته الحركية من تباينات، بتشكيلاتها المتوزعة على كل مشارب التأويل. ونحيل في هذا السياق، على خطوطها العريضة، التي تحفل بها المدونة الفلسفية المتطلعة إلى تمثل ما أمكن من أبعاده، ابتداء من المرحلة الفيثاغورية، وانتهاء بمقولات الزمن الهيدغيري، مرورا بتصورات العقلانية الأرسطية والمثالية الأفلاطونية، إلى جانب ما يوازيها من تصورات كانطية وبرغسونية، تتوزع بين رؤيتها الدائرية للزمن، ورؤيتها المستقبلية، فضلا عن الرؤية القبلية التي تعتبره أصلا متموضعا خارج أي وجود بشري مسبق، مقابل أخرى، تحصر حضوره في ردود الأفعال الداخلية للذات تجاه منبهات المعيش. أي تلك الصادرة عن علاقة الكائن بتحولات العالم الخارجي، إذ يمكن اعتبار هذه الرؤى امتدادا طبيعيا لـ»غائية» تأطيره منهجيا، سواء من زاوية التوقيت أو التوثيق، ذلك أن الزمن بحاجة إلى إطار تاريخي يتجسد فيه، الذي سيظل دونه مجرد حالة هلامية. وهو مصدر الرعب الذي تستشعره الذاكرة الإنسانية، حينما تصطدم بالفراغ كلما استحالت إمكانية العثور على مؤشر تأريخي، أي، حينما يتعذر عليها إيجاد الجسور والحلقات التي تتشكل بها شبكات التفاعل الزمني /التاريخي. وهي الحالة التي تلجأ فيها الأيدي المتسلطة إلى تصنيعها، بحثا عن تشخيص زمني يستجيب لآليات اشتغال تسلطها.
وضمن ذلك، يمكن رصد أطوار اللعبة الصعبة التي يمارس بها الشعر هو أيضا، نزوعه التملكي للزمن. ولعل أهم ما نعنيه بدلالة التملك هنا، هو حالة الانفلات من ربقة دائرة التعاقب التي تتم داخلها عملية تقطيعه إلى ماض وحاضر ومستقبل، كي ينصهر كل هذا وذاك في «ما سيكون»، بدل «ما كان» وبدل «ما هو كائن «. وبصرف النظر عن المسار الذي تتموضع فيه اللحظة، فإن الشعر لا يلبث أن يشحنها بدينامية مقوماته، كي تتحرر من إكراهات زمن الدائرة، لتسير باتجاه «ديمومة المنفتح»، وهي الزمانية التي لا تتقيد بالمستقبل المشروط بحيثياته المكانية والوظيفية، بقدر ما هي زمانية استثنائية، منفتحة على مطلقها، حيث الأمكنة والأزمنة ككل، تبدو محض إطار فارغ، يتهيأ باستمرار لاستقبال لحظة العبور اللازمني لـ»الشيء». فالوعي المنجذب إلى سحر هذه الزمانية، يتحرر مبدئيا من إكراهات الحسم في إشكاليات التقييم، الحكم والتصنيف، بالنظر إلى انفتاحها الدائم على المحتمل، الذي تنبض به الحيوية المتحركة لجوهر الزمن، بعيدا عن إلزامات التحيين والترهين، التي تمليها حيثيات الـ»هنا» والآن.

وإذا ما نحن اعتبرنا أن الماضي المندرج ضمن زمن الدائرة، هو بامتياز زمن ما تم الحسم في أصل أحداثه، وفي منبت وقائعه، فإن زمن القول الشعري الذي نحن بصدده، غير معني مطلقا بمنهجية أي حسم نهائي.

والجدير بالذكر أن الشعر الذي يعنينا في هذا السياق، هو المتميز بانفتاحه على أفق هذا المطلق، نتيجة انصهاره الجمالي والمعرفي في تضاعيف «الجوهر»، الذي تنبثق من صلبه الحوادث والأحوال. وإذا ما نحن سلمنا سلفا، بكون هذه الأخيرة مندرجة ضمن حركية التعاقب الصادرة عن الرؤية الدائرية للزمن، أي بما هي حوادث وأحوال آيلة لأفولها الزمني، فإن الجوهر المنبثقة عنه، يظل في المقابل ملكا لزمن الشعر، الذي يستعيد كل ما هو مقيم في عمق الغابر، بانتظار لحظة انبثاقه الشعري، وقد تضاعفت حياته، على ضوء تضاعف حركية الاستعادة.
ذلك هو ما تبوح لنا به القراءات المتتالية عبر الأزمنة، والمنتشية بجمالية استعادة جوهر الشيء ذاته، بصرف النظر عن جذوره الضاربة في القدم، من وجهة نظر التحقيب التقليدي. بمعنى أن الأمر لا يتعلق بمحض استعادة شكلية، تروم تجديد علاقتنا بالشيء، كي نراه بالصيغة الماضية التي هوعليها، بقدر ما يتعلق بتأليبه على سكونيته، كي يمارس انفتاحه الزمني على ما سيكون.
هكذا سوف نجد أنفسنا بصدد خوض رهان البحث عن لحظة التجلي المحتمل، لما تيسر من أطياف الحقيقي ومنازله، ولو على سبيل توهمات يفرح الكائن الشعري بتلقي إشاراتها، فمن هذا المنطلق المتسائل تحديدا عن حقيقة الحقيقي، يمكن فصل جوهر الاستعادة الشعرية عن الاستعادة التأريخية، باعتبار أن مجال هذه الأخيرة هوالتثبيت التام والنهائي للحدث والحال، كي ينغلقا إلى الأبد على ما أسقطته عليهما الأعراف، بكل سلطها المتعالية من صفات ومن أحكام.
وإذا ما نحن اعتبرنا أن الماضي المندرج ضمن زمن الدائرة، هو بامتياز زمن ما تم الحسم في أصل أحداثه، وفي منبت وقائعه، فإن زمن القول الشعري الذي نحن بصدده، غير معني مطلقا بمنهجية أي حسم نهائي. إنه وتبعا لذلك، البطارية الدلالية التي تشحن ما كان بما سيكون، كي يمارس انفتاحه الدائم على شبكة لا متناهية من الاحتمالات، التي لا تتسرب إليها رياح الإكراه. إنه الزمن المستقل بإوالياته الفكرية والجمالية، التي تقطع مع الصيغة العرفية، تلك الموحية من حيث الظاهر، بحضور تواطؤ تفاعلي وتواصلي بينها وبين زمن لا أثر فيه لأي التباس أوغموض، حيث تفوض لهما البشرية أمر تدبيرهما لحياتها بما يضفي عليها القدر الملائم والكافي من المعنى، إلى أن تعصف رياح الموت خلسة بمضاربها، مخلخلة بذلك أسس هذا التواطؤ، ومنهجية ذاك التنظيم. علما بأن هذا الإخلال المدوي، لا يلبث أن يصبح هو أيضا في حكم النسيان، كي تستمر /البشرية في ترسيخ علاقتها بالعلاقة الدائرية التي تربطها بالمفهوم الغامض للزمن، وهي على العموم علاقة، لا تسير ضمن إيقاع موضوعي، ثابت ومتفق عليه، ما دامت خطوات السؤال والبحث، جد متفاوتة، سواء من حيث المقاس، السرعة، الوجهة، أو القصد، الشيء الذي يؤثر في إنتاج رؤى جد متباينة وجد متنافرة لهوية الزمن، التي تجد فيها الكتابة الشعرية ضالتها، كي تتخذ منها مختبرها الفني والجمالي. وهو مختبر يتيح لها أكثر من إمكانية للتنقل بين مختلف الاحتمالات الفيزيائية، الغنية بغريب أضدادها ومفارقاتها، ذلك أن إنطاق الشعر للزمن، يتحقق مبدئيا من خلال تكليم تشكيلاته المتقلبة، والمندمجة في شبكة لامتناهية من التجاذبات التي لا قبل لبعضها بالبعض الآخر.
ذلك هو مفهوم التملك الشعري للزمن، الذي تنعدم معه خاصية التقطيع التعسفي للديمومة، حيث ترتفع الحواجز الوهمية والعرفية الفاصلة بين ما كان، وما هو كائن، وما سيكون. فالشعر بهذا المعنى، يساعد كائنه على اختراق حجب ما تعتقد العامة بحتمية وجوده بمحض العادة، من أجل اكتشاف أبعاد الزمن المحتجبة، التي يساعده استئناسه بها على تملك المسالك المفضية إلى المسكن، الذي يتخلص فيها الزمن من قدرية التعاقب، كاشفا عن ثراء تدفقه الحي والدائم، حيث يطيب للكائن أن يلقي رحاله، داخل النص أو خارجه. فالاختراق الشعري للحظة، وبصرف النظر عن مرجعيتها التوثيقية، هو الذي ينتزعها من سياقها التعاقبي، ليضعها مباشرة في قلب أفقها المستقبلي، باعتبار أنه اختراق من شأنه استعادة لحركيتها الكفيلة بتجديد رؤيتنا إليها من غير المنظور الذي قوربت به من قبل، وداخل بوتقة متكاملة، لا يفصل بين مقوماتها أي تقطيع ثنائي أو ثلاثي لجسد الزمن.

شاعر وكاتب من المغرب