المؤسسة الملكية والاصلاحات الكبرى

المؤسسة الملكية والاصلاحات الكبرى:

بقلم : زاهر نورالدين

لا يمكن التفكير، مغربيا، في موضوع “الإصلاح”، دون إثارة علاقاته الممكنة وترابطاته المفترضة مع المؤسسة الملكية، فالمساحة التي تحتلها هذه الأخيرة داخل الساحة العمومية وفي الخطاب السياسي، تجعلها في قلب رهانات الإصلاح، سواء نظرنا إليه كمسلسل أو كخطاب ومطلب.

موقع الملكية في النظام السياسي والدستوري المغربي:

تحتل الملكية مكانة سامية بين المؤسسات الدستورية بحيث توجد على قمتها. فتكريسها كمؤسسة يبدو من خلال الضمانات المخولة لها بمقتضى النصوص الدستورية
لا تحتاج الملكية إلى إقران استمرارها بنجاعتها الإصلاحية، إنها داخل خطاب الشرعية الذي تنسجه حول ذاتها، تقوم بوظيفتها بناء على “بيعة الإمامة الشرعية الموصولة بما سبقها على امتداد أزيد من اثني عشر قرنا موثقة السند بكتاب الله ورسوله الكريم ومشدودة العرى إلى الدستور المغربي”.

إن هذا المنطق في تحديد شرعية النظام السياسي الملكي، كشرعية تاريخية ودينية، هو الذي كان يجعل الحسن الثاني لا يتردد في الجزم بأن المؤسسة الملكية هي التي “صنعت المغرب” وأنها “ضرورة ولزوما” وأنه “لولا ملكية شعبية لما كان المغرب أبدا”.

إن “الإصلاح” داخل الخطاب السياسي للملكية ليس عنصرا لإضفاء الشرعية على نفسها، لأن الشرعية مكتسبة. إنه إحدى تمظهرات ممارسة الإمامة، ومن هنا الاستناد على المرجعية الدينية داخل خطاب الإصلاح من خلال إنهاء بعض الخطب الملكية مثلا بالآيات القرآنية “إن أريد الإصلاح ما استعطت وما توفيقي إلا بالله”، أو التذكير في إحدى الحوارات الصحفية التي أجراها الملك محمد السادس بأن مهمته كملك تجعل منه الخديم الأول للمغاربة.
وعموما يقدم الخطاب السياسي للملكية الإصلاح كوعي بالأزمة وكااستمرارية، كما يندرج الإصلاح ضمن هذا الخطاب ضمن مشروع معياري، ويبدو في الأخير كمسلسل شامل.

يبدو خطاب الإصلاح، كخطاب واع بالشروط الموضوعية للبلاد، من خلال تلمسه لخطاب الحقيقة، أو التعرض المباشر والواضح لكل الاختلالات والأزمات التي يعرفها المغرب، وخاصة تلك المرتبطة بالوضعية الاقتصادية والاجتماعية، ولعل أبرز نموذج على هذه السمة التي تطبع خطاب الإصلاح، تلك الفقرات التي تتطرق للوضعية الاجتماعية والاقتصادية وحقوق المرأة ، في الخطاب الملكي الأخير بمناسبة عيد العرش المجيد.

كما يحرص خطاب الإصلاح، على أن لا يبدو مؤسسا على القطيعة، لذلك يقدم الخطاب السياسي للملكية الإصلاحات المتحققة كاستمرارية لما تم تحقيقه في الماضي، بمعنى أن زمن الإصلاح ممتد ليس فقط في الزمان والمكان.
إن تعدد حلقات ومواضيع الإصلاح، تجعل الخطاب السياسي للملكية يقدم الأمر كما لو تعلق بمسلسل شامل متعدد الحلقات، فبعد الحديث في خطب سابقة عن إصلاح الإدارة و إصلاح القضاء، و الإصلاح الاقتصادي والإصلاح التعليمي، وإصلاح الحقل الديني…
ففي خطاب العرش الاخير ركز جلالته عن ورش الحماية الاجتماعية واصلاح مدونة الاسرة.
تقدم الخطب السياسية للملك محمد السادس، إطارا عاما لمختلف مناحي الإصلاح، إنه “الهدف الأسمى” الذي يتعين على المغرب وصوله، و”التوجه الاستراتيجي” للبلاد. هذا الإطار العام هو “المشروع المجتمعي” الذي تدافع عنه المؤسسة الملكية، تارة تحت شعار “المشروع المجتمعي الديمقراطي التنموي”، وتارة أخرى تحت شعار “المشروع الديمقراطي الحداثـي”، وفي حــالات أخــرى يتم الاكتفاء بمفهـوم “المشروع المجتمعي” دون أية إضافة.

وإذا كانت وظيفة المؤسسة الملكية هنا، هي تحديد التوجهات الكبرى لهذا المشروع المجتمعي فإن “على المؤسسات الدستورية، والهيئات السياسية، والقوى الحية في البلاد، أن تقوم بتجسيد هذه التوجهات على أرض الواقع، من خلال برامج مضبوطة في أهدافها، ووسائل تمويلها، وآماد إنجازها وتقييمها”.

يضع هذا المشروع نصب أعينه بناء “مجتمع حداثي قوامه ترسيخ دولة الحق والقانون وتجديد وعقلنة وتحديث أساليب إدارتها وإعادة الاعتبار للتضامن الاجتماعي والمجالي وتفعيل دور المجتمع المدني وإنعاش النمو الاقتصادي وحفز الاستثمار العام والخاص وإطلاق تنمية شمولية وإقلاع اقتصادي يضع في صلب أولوياته تشغيل الشباب والنهوض بالعالم القروي والشرائح الاجتماعية والمناطق المعوزة وتأهيل الموارد البشرية”، وذلك انطلاقا من استيعاب “حقيقة مجتمعنا في سياقه التاريخي والعمل على تغييره نحو الأرقى والأفضل بواقعية بعيدة عن الشعارات الجوفاء والمقولات الجاهزة وقادرة على التفاعل مع متغيرات العصر”.

وتظل “المواطنة” بشكل من الأشكال إحدى نقط الارتكاز القيمية التي طالما أكد عليها المشروع المجتمعي للملك، حيث تواترت الدعوة غير ما مرة لتجاوز النظرة التواكلية والانتظار، بل والسلبية التي قد تطبع سلوك الشعب المغربي، فعند

وهكذا إذا لم يقدر لهذا المشروع التحقق، أو اعترضت سبيله عوائق ومثبطات، فإن المسؤولية تقع على الهيئات والمؤسسات الدستورية التي قد تكون، في هذه الحالة، حادت عن التوجهات الملكية، أو أنها لم تجتهد في تطبيقها على الوجه المطلوب، أما إذا تحقق هذا المشروع المجتمعي الديمقراطي الحداثي، إن كلا أو بعضا، فالفضل في ذلك يعود، بالدرجة الأولى للملك الذي سطر الأهداف والغايات.

الملاحظة الثالثة، ترتبط بالعمر المفترض لهذا المشروع المجتمعي، الذي كثيرا ما يتحول من مجال القيم والمرجعيات الكبرى والمرتكزات الاستراتيجية، إلى مجال البرنامج السياسي المحدد زمنيا ومجال السياسات العمومية، كما هو الحال مثلا في خطاب العرش لسنة 2004، والذي تطرق لبرنامج السنوات المقبلة إلى غاية 2010 مسطرا الأهداف التالية : “إيجاد حل نهائي لقضية الصحراء، وتحصين الانتقال الديمقراطي، وترسيخ مبادئ المواطنة الملتزمة، عبر استكمال ميثاق التربية والتكوين، وإصلاح الحقلين الديني والثقافي، ووضع عقد اجتماعي جديد، والنهوض بالتنمية القروية وبالقطاع الفلاحي، وبناء اقتصاد عصري منتج ومتضامن وتنافسي، وتعزيز مكانة بلادنا، كقطب جهوي وفاعل دولي، في عالم يعرف تحولات حاسمة ومتسارعة”.
عمليا لم يسجل انتقال العرش إلى ملك جديد، عام 1999، أي تغير على مستوى تصور وإشتغال الملكية كملكية تنفيذية وحاكمة، إذ أن خطاب الخصوصية ظل مستمرا في هذا الباب، فإذا كان الحسن الثاني قد اعتبر أنه “إذا كانت الملكية الدستورية تعني عادة نظاما يسود فيه الملك ولا يحكم، فإن خصوصيات المغرب تجعل وجود ملكية يسود فيها الملك ويحكم ضرورة حتمية”.

ولذلك “فالشعب المغربي لا يستطيع أن يفهم كيف يمكن أن يكون ملك ولا يحكم، فلكي يستطيع الشعب أن يعيش، وتكون الدولة محكومة، يجب أن يعمل الملك وأن يأخذ بين يديه سلطاته ويتحمل مسؤوليته…
فالدستور لا ينشئ مؤسسة جديدة، وإنما يقرها استمرارا للتاريخ، على عكس المؤسسات الأخرى التي يمكن اعتبارها من صنع الدستور”.
إن العمق السياسي لمفهوم الملكية الحاكمة أو التنفيذية، ينطلق من أسبقية وسمو المؤسسة الملكية على الدستور نفسه، الذي يصبح مفرغا من حمولته الغربية والدستورانية، حيث لا يعني بالضرورة تقييدا للسلطة وتجسيدا لفصل السلط.

فالمؤسسة الملكية تعتبر أنه إذا كان هناك من “فصل للسلط – يقول الحسن الثاني- لا يمكن أن يكون في مستواي، بل هو في مستوى أدنى، فالملك يحكم بلاده ويسير سياستها مستعينا بسلطتين…. السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية”.

إن الملك في النظام السياسي المغربي هو الرئيس الفعلي للجهاز التنفيذي، حيث يترأس المجلس الوزاري مما يمكنه من توجيه السياسة الحكومية، ويتدخل بشكل مباشر في الحياة البرلمانية عبر مخاطبة البرلمان دون أن يكون خطابه محل أي نقاش. وتتضح صورة الملكية الحاكمة في تدبيرها للملفات ذات الطابع الاقتصادي، وفي التعيين في الوظائف المدنية والعسكرية والقضائية.

الواقع أن مساحة التحرك هذه، التي تخلقها الملكية لنفسها هي التي مكنتها من ضمان حضور شامل على مستوى مشاريع الإصلاح المعلنة، مستندة إلى حقلين متداخلين، حقل إمارة المؤمنين (إصلاح مدونة الأسرة – إصلاح الحقل الديني…) أو حقل الملك الدستوري (المفهوم الجديد للسلطة – الإصلاح الحزبي…)

حفظ الله الملكية وملكنا والشعب المغربي وشعارنا الخالد: الله الوطن الملك.