تهجير سكان غزة.. ومشاهدات خاصة لـ«القدس العربي» تعيد ذكريات «النكبة»

غزة- «القدس العربي»: اتسع نطاق الحرب التي تشنها دولة الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، إذ لم تعد مرتبطة بالمجازر الدموية التي تقترف منذ اليوم الأول وراح ضحيتها مئات المدنيين الأبرياء بينهم أطفال، علاوة على التدمير الممنهج للمؤسسات الخدماتية المدنية، ومن بينها طواقم إسعاف وبنى تحتية، بل امتدت إلى عمليات ترحيل قسري تحت التهديد لسكان مناطق غزة والشمال إلى مناطق الوسط والجنوب، في مشهد يعيد ذكريات قصص “النكبة” و”النكسة”، التي عايشوها قبل عشرات السنين.

نزوح صوب الجنوب
وقبل بزوغ شمس الجمعة، كان الآلاف من سكان مدينة غزة والشمال، يتجهون إما على ظهر شاحنات أو عربات صغيرة، أو عربات تجرها حيوانات، في قوافل متتالية إلى مناطق “جنوب الوادي”، الذي يقسم القطاع ما بين الجنوب والشمال، وفق التسمية التي أنذر فيها جيش الاحتلال سكان غزة والشمال، والتي طالبهم فيها بترك منازلهم والخروج منها نحو جهة الجنوب.

وكان جيش الاحتلال أصدر بيانا طالب فيه سكان غزة والشمال، بالخروج إلى مناطق الوسط والجنوب، وحمل البيان تهديدا باستهدافهم في حال عدم الخروج، وكان تهديد التهجير هذا هو الأكبر ولم يعهد في هذه الحرب، ولا في الحروب السابقة التي شنتها إسرائيل ضد قطاع غزة، حيث كانت التهديدات سابقا، إما تقتصر على حي صغير أو شارع محدد.

وعقب إصدار البيان، قام جيش الاحتلال بإجراء اتصالات مع الكثير من السكان، يطالبهم بالخروج والتوجه إلى مناطق “جنوب الوادي”.

طالب الجيش الإسرائيلي سكان غزة والشمال، بالخروج إلى مناطق الوسط والجنوب، وحمل بيانه تهديدا باستهدافهم في حال عدم الخروج

دمار هائل
في رحلة الخروج كان المشهد مريباً، فالذين فروا تاركين منازلهم خلفهم، وقد خرجوا وهم يحملون قليلا من الأمتعة، وهي عبارة عن أغطية ومراتب للنوم، شاهدوا حجم الدمار الكبير الذي خلفته الغارات الجوية الإسرائيلية، منذ بداية الحرب، في طريق الوصول إلى مناطق “جنوب الوادي”. فعلى جانبي الطريق كانت أكوام ركام البنايات المدمرة تشاهد في عدة مناطق في مدينة غزة، وتحديدا في منطقة الرمال، الحي الراقي في مدينة غزة، وكانت تفوح منها راحة الموت.

في تلك المناطق يضطر السائق إلى السير ببطء شديد، فكم الدمار يمنع من السير وفق السرعة المعتادة، لكن عند المغادرة، يضغط بكل قوة بقدمه على دواسة الوقود ليخرج من المكان مسرعا، خشية من أن يتجدد القصف وهو في تلك المنطقة.

لكن أيا ممن فروا من شمال القطاع، لم يخش هول السرعة الكبيرة للمركبات في الطريق العام، فالجميع كان يترقب بخوف الوصول إلى مبتغاه، رغم أن قطع المسافة لا يحتاج إلا لنحو 20 دقيقة على الأكثر.

قصص إنسانية كثيرة تكتب عن مشاهد الخروج والنزوح من المساكن المدنية الآمنة، في مقدمتها البحث عن وسيلة النقل، فإن لم تكن العائلة تملك عربة، فإنها ستضطر لدفع مبلغ مضاعف لأي وسيلة نقل أخرى، مثل الشاحنات أو عربات بيع الخضار، أو حتى العربات التي تجرها الحيوانات. ومن لم يجد تلك الوسيلة التي وإن توفر المال، فإنه صعب الوصول إليها، فقد اضطر للسير على الأقدام لمسافات متفاوتة، أقلها نحو 15 كيلومترا، متخطيا أهوال الطريق غير الآمنة، ومستنشقا رائحة الموت بغير إرادته، خاصة عند المرور بالمناطق المدمرة، والبنايات التي قضى بداخلها سكانها، بعد أن استهدفها الطيران الحربي الإسرائيلي من دون سابق إنذار.

ومن القصص التي يعيشها السكان في رحلة الخروج، اضطرار السائق الى الحصول على كمية قليلة من الوقود، لتكفيه رحلة السفر على طولها أو قصرها، إذ ينتظر طابور العربات التي تصطف أمام محطات التعبئة في مدينة غزة.

ولم يكن عماد، رجل في نهاية الخمسينيات، قد عايش مأساة “النكبة”، وهجرة الفلسطينيين قسرا من مدنهم وقراهم إلى مناطق اللجوء والشتات، لكنه قال عند توقف عربته الصغيرة التي وضع فيها أسرته الكبيرة والمكونة من ثمانية أفراد، عند محطة تعبئة وقود، أمامه طابور من عربات الأسر التي قررت الخروج، إن “ما يحدث اليوم يشبه ما عاشه آباؤه قبل عشرات السنين”.

ويضيف هذا الرجل، وهو موظف حكومي، في حديث مع مراسل “القدس العربي” بانتظار دور تعبئة الوقود، إن خوف أبنائه الصغار عند سماع الخبر، وخوفه أيضا من أن يحصل معهم ما حصل مع عائلات في حي الرمال والكرامة في مدينة غزة، دفعه لاتخاذ قرار الخروج والتوجه إلى الجنوب.
ويبين ذلك الرجل الذي خرج مع أفراد أسرته، وهم يحملون حقيبة ملابس فقط وبعض الأمتعة، أنه لا يعرف ما القادم، وإن كان هناك مخطط آخر للتهجير أم أن هناك مخطط تدمير تريد الحكومة الإسرائيلية تنفيذه، على حساب “جثث المدنيين”.

وفي قطاع غزة، لجأ جيش الاحتلال منذ اليوم الأول للحرب، إلى قصف مناطق مدنية وبنايات سكنية، دون سابق إنذار، ما أدى إلى انهيار تلك المباني فوق رؤوس ساكنيها، والقضاء على عوائل بأكملها، وشطبها من السجل المدني.

وعلى طول الطريق الساحلي “الرشيد”، الذي سلكته عربات المواطنين في رحلة النزوح الجديدة الى مناطق الجنوب، أو الطريق الرئيس “صلاح الدين”، يترقب من تحمله قدماه أو عربات أو شاحنات أو العربات التي تجرها الحيوانات، الوصول إلى أول نقطة لم يطلها التهديد، ليس لالتقاط أنفاسه باعتبار أنه نجا من خطر الموت، كون أن هذا الخطر سيظل يلاحق جميع سكان غزة حتى تضع الحرب أوزارها، لكن من أجل الحصول على ملجأ لإقامة أسرته.
وتبدأ مناطق جنوب وادي غزة بمخيمات اللاجئين في المنطقة الوسطى النصيرات والبريج والمغازي وبلدة الزوايدة ومدينة دير البلح، ومن ثم مدينتي خانيونس ورفح وبلداتهما ومخيماتهما وهما في أقصى جنوب القطاع.

ولم يعرف بعد العدد الكلي للفارين من غزة والشمال إلى مناطق الوسط والجنوب، وذلك لأن الكثير منهم أقام عند أقارب وأصدقاء، حيث لا يمكن معرفة سوى عدد الأسر التي تقطن في “مراكز الإيواء”.

لم يعرف بعد العدد الكلي للفارين من غزة والشمال إلى مناطق الوسط والجنوب، لأن الكثير من هؤلاء أقام عند أقارب وأصدقاء، إذ لا يمكن معرفة سوى عدد الأسر التي تقطن في مراكز الإيواء

ورغم وصول أعداد كبيرة من السكان الفارين، إلا أن العدد الأكبر من سكان مدينة غزة وشمالها، بقوا في منازلهم ورفضوا مغادرتها، باعتبار أن الموت واحد، سواء في غزة أو جنوبها، مستذكرين حالات كثيرة قضت في طريق الخروج، أو في المناطق التي لجأت إليها، ومن بين هؤلاء من يشير أيضا إلى استهدافات جيش الاحتلال السابقة لـ “مراكز الإيواء” بشكل متعمد.

وذكرت مصادر محلية أن طائرات الاحتلال استهدفت عربات تقل مواطنين خلال خروجها من منازلها في غزة تجاه الجنوب.

وفي هذا السياق، أكد الدفاع المدني في قطاع غزة، أن 90% من عمليات القصف الإسرائيلي تستهدف منازل مأهولة، وما يبرهن على ذلك أعداد العوائل التي قضت بفعل تلك الغارات ومنها عوائل أبو جزر والأغا والكفارنة والأي.

ومنذ أيام، رحل بفعل الغارات الجوية وقصف المدفعية، سكان الحدود الشرقية للمنطقة الوسطى والمناطق الشرقية لخانيونس ورفح، إلى مناطق الغرب، وسكن هؤلاء إما عند أقارب لهم، أو في المدارس التي تحولت إلى “مراكز إيواء”، وقد اكتظت تلك المراكز بشكل كبير من الفارين من الغارات الإسرائيلية، حتى أن الكثير منها لم يعد فيه متسع خاصة في وسط القطاع، أو المناطق التي يصلها الفارون من غزة والشمال، فيما أقام الكثيرون عند أسر في وسط القطاع والجنوب، وهي أسر أقارب أو أسر استضافتهم حتى زوال الغمة.

ومن بين الذين غادروا غزة إلى الجنوب من ظل في عربته هو وأسرته، بعد أن حولها إلى منزل صغير متنقل، لا يصلح إلا للجلوس، ويتكل على الجيران أو مراكز الإيواء في حال احتاج أحد من أفراد أسرته لقضاء حاجته، وهذه العائلات تعتمد على الألبان والبسكويت لإسكات جوع أطفالها.

ويقول أحد العاملين في مركز إيواء في وسط القطاع، إن المشهد غير معتاد بالمطلق، ولم يلاحظ هذا الكم من الفارين إلى المراكز خلال الحروب السابقة.

ويبين، طالبا عدم ذكر اسمه، لعدم حصوله على رخصة من وكالة “الأونروا” التي تدير المركز بالحديث مع الإعلام، أن وصول سكان مدينة غزة إلى مناطق وسط القطاع والجنوب ضاعف العدد، وينذر بعدم القدرة على تقديم الخدمات المعهودة على أكمل وجه، لافتا إلى أن هناك ممن كانوا في مراكز إيواء في غزة، وتركوها باتجاه الجنوب، علاوة على أسر كانت تقطن في مناطق بعيدة عن الحدود أو المراكز الأمنية، واضطرت بسبب التهديد للخروج لأول مرة.

رغم وصول أعداد كبيرة من السكان الفارين، إلا أن العدد الأكبر من سكان مدينة غزة وشمالها، بقوا في منازلهم ورفضوا مغادرتها، باعتبار أن الموت واحد

غزة حفرة من الجحيم
وتؤكد الأمم المتحدة في آخر تحديث لها، أن عدد النازحين داخل قطاع غزة ارتفع إلى أكثر من 420 ألف مواطن، وقد بينت منظمات حقوقية أن ما تقوم به قوات الاحتلال من عمليات تهجير لسكان غزة مخالفة للقانون الدولي، وأن ما تمارسه تلك القوات عبارة عن عقوبات جماعية ترتقي إلى “جرائم حرب”.

ومع تضاعف سوء الأوضاع الإنسانية وكثرة عدد الضحايا في صفوف سكان غزة، قالت “الأونروا”، إن غزة تتحول بسرعة إلى حفرة من الجحيم وهي على وشك الانهيار.

وقالت وزارة الصحة في غزة إن الاحتلال “مقبل على حرب إبادة لقطاع غزة”، وإنه قد تعدى كل الخطوط الحمراء، وأكد الناطق باسم الوزارة أن المنظومة الصحية دخلت مرحلة الانهيار.

تؤكد الأمم المتحدة في آخر حصيلة لها أن عدد النازحين داخل قطاع غزة ارتفع إلى أكثر من 420 ألفا

وحتى الوصول إلى مراكز الإيواء في وسط القطاع والجنوب، لا يعني أن الفارين باتوا في أمان، ففي هذه الحرب قضت العديد من الأسر في مناطق فرت إليها بعد أن تركت منازلها، بعد استهدافات إسرائيلية لمباني أقارب لهم، وصلوا إليها قبل ساعات فقط بحثا عن الأمن، فقضوا وأقاربهم تحت الأنقاض، في مشاهد تكررت أكثر من مرة.

وفي غزة يمكن أن يكون ثمن الفرار من الخوف هو الموت، خاصة وأن الجيش الإسرائيلي وكما في كل مرة يتعمد إيقاع خسائر كبيرة في صفوف الفلسطينيين، في إطار ما تعرف بـ “قوة الردع”، التي تستهدف المدنيين بالدرجة الأولى.

ويقول مواطنون في جنوب قطاع غزة، إن أعدادا كبيرة من سكان مدينة غزة وصلوا إليهم، فيما حذرت جهات حكومية وشعبية في غزة، من أن يكون المخطط هدفه الدفع قدما بسكان غزة للخروج التدريجي باتجاه مصر.

حذرت جهات حكومية وشعبية في غزة من أن يكون المخطط هدفه الدفع قدما بسكان غزة للخروج التدريجي باتجاه مصر

عدم التعامل مع الشائعات
وطلبت لحنة المتابعة للقوى الوطنية والإسلامية من السكان عدم التعاطي مع الشائعات للنزوح، وقالت إن الاحتلال يراهن على الشائعات للضغط على الشعب والمس بصلابته ومناعته. كما طالبت الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بالقيام بدورهم في وقف العدوان “وإلزام الاحتلال الفاشي بعدم استهداف المدنيين وممتلكاتهم وبيوتهم”، كما طالبت الدول العربية بسرعة التدخل لحماية الشعب الفلسطيني وتوفير المستلزمات الضرورية لاستمرار الحياة للمدنيين في القطاع.

ولذلك أصدر المكتب الإعلامي الحكومي في غزة بيانا أشار فيه إلى أن الاحتلال “يحاول بث وتمرير بعض الأخبار الدعائية الكاذبة بطرق مختلفة، بهدف “إحداث بلبلة بين المواطنين والمس بتماسك جبهتنا الداخلية”.

وأشار إلى أن من بين تلك المحاولات ما يتداول حول الطلب من بعض العاملين في المؤسسات الدولية التوجه الى مناطق الجنوب. وجاء في البيان “نؤكد على مواطنينا عدم التعاطي مع المحاولات التي تأتي ضمن الحرب النفسية”، لافتا إلى أن طواقم هذه المؤسسات ما زالت في أماكنها.ANAHDA INTERNATIONAL TV