دور ملوك الدولة العلوية

حب الحرية وعقيدة التحرر هما الميزة التي تجل عبر القرون حركات التاريخ المغربي وتؤجج النفس المغاربة في كل ما خاضوا من معارك وما قاموا به من ثوارت، وما نبضت به ضمائرهم من حيوية وإحساس ورق به وجدوانهم من سمو ونبالة..
إن عرق الحرية ينبض فينا منذ الأجيال الغابرة.. ولهذا فنحن أحق بحياة يتغنى بها الطير ويشدو على الأفنان في الهواء الطلق حول الربوع الخضر في هذه الأرض الطيبة.
هذا وأن الذكرى الرابعة عشرة لتربع صاحب الجلالة الحسن الثاني على العرش العلوي المجيد لتذكرنا في فخر واعتزاز “بالكفاح البطولي الذي خاضه أبناء هذه الأسرة العلوية العريقة، والشعب المغربي النبيل في الحفاظ على كيان المغرب وتقدمه ووحدة ترابه والرفع من مكانته بين الدول الراقية”.
نعم… فعندما تبسط القوى المعادية لبشرية سلطانها يولد أفراد من ذوي الإيمان الراسخ مدركين إدراكا واعيا حقيقة الخطر القائم على الإنسان ويلعبون دورهم دون خوف أو تردد غير عابثين بما يلحقهم من مكروه وأذى. ولقد سجل التاريخ المغربي الشيء الكثير عن الأسرة العلوية من المكارم والأمجاد منذ حلول بهذه البلاد المغربية… فكانت هجرتهم من الحجاز إلى المغرب هجرة خير وبركة على البلاد وأهلها. فنجد البطولة الحق في أروع صورها الإنسانية تجلوها كل حركة قادها ملوك هذا العرش من المولى علي الشريف إلى الحسن الثاني ونجد كذلك المجد الإنساني الباذخ والسمو الروحي الأمثل الذي يتعالى في مقاصده عن المدارك والأهواء الضيقة هو الذي يؤلف وينظم السلسلة الذهبية لهذا العرش. وأن عظمة هذه الدولة، وهم بناة صفحاتها التاريخية ليقفون بين تواريخ كثير من الأمم موقف التحدي في كثير من صور البطولة والشهامة، وفي كثير من مناهج العمل والإخلاص!
لقد أعطت الدولة العلوية للعلم والدين مميزاتها العظمى وأدت رسالتها أداء متقنا.. لم تجد طريقا تصل بها إلى النهوض العلمي والثقافي إلا وسلكته، ولا سبيلا يضمن لها السمو بالدين والرفع بمقامه إلا وسارت عليه… فكانت تعفي رجال العلم من كل الأداءات المفروضة على غيرهم، وكان المولى الرشيد ينفق في سبيل العلم أموالا طائلة، ويمنح العلماء والأدباء صلات مالية ضخمة. كما كان يعين القائمين بالوعظ والإرشاد لكي لا يبقى الجمود مستوليا على أفكار سامعيهم، ولتنمو الحركة الإصلاحية التي كان يسعى، قدس الله روحه، في تطورها – ولم يكن المولى إسماعيل والمولى محمد بن عبد الله بأقل دعوة إلى نجاح المسعى الإصلاحي من المولى الرشيد.
وكان المولى سليمان يشجع بعض المؤلفين حتى كثرت التآليف في عهده وكثرت المطالعات العامرة من كتب نفيسة مفيدة إبان ملكه… ولقد كان هو نفسه مؤتلفا كبيرا.
ولقد انفق المولى عبد الرحمن كثيرا من المال على التعليم الابتدائي والعالي وأسس مدارس قرآنية كما أسس ولده مدارس حربية تلقن طلبتها العلوم الحربية وتنور أفكارهم من هذه الناحية التي تعطيها الدول اليوم أهمية كبرى وتعقد عليها آمالها في النصر والنجاح – فكان المغرب يفتخر بالعديد من متخرجيها ويستفيد من دراستهم ومواهبهم – ومن إصلاحاته الدينية رحمه الله طلبه من علماء التدريس الاختصار في مقروآت الطلبة وعدم التطويل منها لكي لا تعرقلهم عن الفهم ولكي تعم الفائدة للجميع.. وهذه المسألة لها أثرها في الإصلاح.. ولقد أسس المولى محمد بن عبد الله مساجد عديدة ومؤسسات دينية وثقافية كثيرة ولقد كان اهتمام الملوك العلويين بالقضاء والعدلية كبيرا، فلم يجعلوا في هذين المنصبين الخطيرين إلا من توفرت فيه شروط الكفاءة من علم وخبرة وكفاءة وتقوى… فلهذا كان المولى إسماعيل يبحث القضاة ويفتشهم عن السلوك الذي يسلكونه… ولكن، من الذي كان يظهر لإسماعيل العظيم حقيقة الأمر؟ أنه الامتحان الذي نظمه حالما تربع على عرش المغرب.. وقد عزل كثيرا من العدول الذين لم توجد فيهم مؤهلات العدالة… وقانون الحكم في عهد هؤلاء الملوك الميامين كان مستمدا من كتاب الله العزيز وسنة رسوله الكريم: فمنهما خططوا قانون الحكم، وبهما نجحوا في عدالتهم الكبرى.
هذا ومن جهة أخرى فقد أثبت المؤرخون أن الدولة العلوية كانت تؤمن أن لا رقي للشعب ولا استمرار في سيادته إلا بالقضاء على الشعوذة والتدجيل وما يعمل عملهما… فقضوا على كثير من الطوائف المشعوذة.. وكان المولى محمد بن عبد الله العالم السلفي لا يعرف إلا ما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم – وكان يضرب على أيدي كل من سولت له نفسه أن يخرج عن هذين النظامين الراسخين والدعامتين الأساسيتين… والمولى سليمان كان يناصر التجديد ويمنع العوام من زيارة القبور وقيام المواسم الضارة.. والمولى عبد الرحمن كان يقاوم كثيرا من البدع ويمنع المسكرات وينهي عن الفساد والزنى. وكان يساعد الأفراد الذين يقصدون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويقاومون الخرافات والجمود!!
ولم تقف الدولة العلوية إلى حد هذه الإصلاحات العظيمة بل تعدتها إلى إصلاحات أخرى منها يستمد الوطن قوته الكاملة… فتأسست في عهود ملوكهم الأسبقين أساطيل حربية كبرى تعينهم على أعمالهم الحربية وتساعدهم على قتال كل من اعتدى على الأمة والبلاد… كما تكون هي همزة الوصل بينها وبين الأسفار إلى الخارج – ومن هذه الأساطيل الأسطول الذي كان يشتمل على عدة قطع والذي أسسه المولى إسماعيل الكبير… وأسست في عهد هؤلاء الملوك الأبطال مراسي كثيرة منها مرسى الصويرة ومرسى فضالة وغيرهما.
ومن إنسانية الدولة العلوية أن كان في عهد المولى إسماعيل كثيرا من الأسارى يعاملهم معاملة اللطف والإحسان… وأطلق المولى محمد بن عبد الله سراح كثير منهم، وكان يقدر عددهم بالآلاف. ومن الوسائل التي أعانت هؤلاء الملوك على تثبيت دعائم المملكة المغربية والسمو بمكانتها أن نظمت عدة سفارات في الخارج بقصد التبادل التجاري والاتصال الوثيق مع الدول الأجنبية والاحتفاظ بالعلاقات الطيبة.
أما الجزء الجنوبي من البلاد المعروف بالصحراء المغربية فيذكر المؤرخون المغاربة والأجانب ومن بينهم، دولا شابيل، أن سياسة الملوك العلويين كانت نشيطة.. فقد توالت الغزوات لصد المهرجين، وتوجهت الجيوش المغربية إلى وادان عام 1665 وإلى أدرار عام 1678 – وإلى تاكانت عام 1730 (عن طريق ماسة وواد نون والساقية الحمراء وترشيت عام 189). ووضع المغرب فيالق من جيشه رهن إشارة أمير الترارزة حوالي عام 1672، وحصل هذا الأمير على تولية السلطات إياه. ومنذ عهد السعديين وتعيين شيوخ الطوارق مندرج في اختصاصات باشوات المغرب في تنبكتو… وقد تجددت هذه التوليات في عهد سيدي محمد بن عبد الله وفي عهد مولاي الحسن الأول.
وعرفت الصحراء في القرن التاسع عشر، الصوفي الكبير سيدي محمد الفاضل، تلميذ سيدي المختار الكنتي الذي خلفه ماء العينين في شنقيط والساقية الحمراء، وقد ورد على مولاي الحسن، الذي بعث بواخر مشحونة بالأعتدة للوقوف في وجه التدخل الأجنبي في الصحراء… وعندما وصلت الجنود الفرنسية إلى موريتانيا استنجدت جميع القبائل الشنجيطية بالسلطان مولاي عبد العزيز.
نعم… فكفاح الملوك العلويين من أجل وحدة التراب المغربي وخصصا من أجل الصحراء أكدته الوثائق والمستندات الوطنية والأجنبية. فقد وصل إلى تخوم السنغال السلطان العلوي مولاي إسماعيل وساهر أهل شنقيط حيث عقد على الملكة خناتة بنت الشيخ بكار المغافري، هذا البيت المشهور بالصلاح والاستقامة…
ورحل السلطان مولاي الحسن الأول بدوره إلى تخوم شنقيط وتوغل فيها إلى أن نزلت جيوشه بالساقية الحمراء. وعندما احتلت فرنسا بلاد السينغال سنة 1858 فكرت في الدخول إلى شنقيط وهيأت حملة بقيادة الجنرال “فيدرب” وقد لاقت الجيوش الاستعمارية مقاومة عنيفة من رؤساء القبائل الساكنين في القطر من عرب وموريتانيين وكبدو العدو خسائر في النفوس لم يعرف عددها. واستمرت المقاومة إلى سنة 1901 حيث بعثت فرنسا جيشا بقيادة الجنرال “كبولاي” للاجتماع برؤساء الصحراء… فاجتمع بأمير القرارزة آنذاك السيد أحمد ابن سالم ابن علي، وذلك في أقصى الجنوب الموريطاني حيث تقع إمارته وطلب منه عقد معاهدة صداقة وتعاون والسماح له بالدخول إلى إمارته!! فرفض الأمير هذا الطلب مؤكدا للجنرال الفرنسي أنه لا يستطيع إبرام أية اتفاقية إلا بعد الحصول على “موافقة سلطان المغرب” وعند ذلك دبر الضابط الفرنسي مكيدة لقطع نهر السينغال واحتلال الإمارة بالقوة… ولكن جيش الأمير قاومه بشدة أربع سنوات.. واستمرت الحرب بين أبناء الصحراء المغربية والجيش الفرنسي مدة خمسة عشرة سنة ولم تنته إلا سنة 1916.
وكان السلطان مولاي عبد العزيز قد أرسل وفدا إلى شنقيط ليتفقد الأحوال ويصلح من شأنها وينصب بعض الموظفين ويسلم لهم ظهائر تعيينهم، فقصدت هذه البعثة مدينة السمارة بالساقية الحمراء، واجتمعت بالشيخ ماء العينين وأدت مهمتها أحسن أداء.
وفي سنة 1911، عندما تمت المعاهدة الفرنسية في شأن المغرب… وضعت خريطة لتحديد البلاد المغربية.. كانت تحد الجزائر وإفريقيا الوسطى: “السينغال والسودان وريو دي أورو” وتوجد الصحراء المغربية داخلة في هذه الحدود! وقد عدمت فرنسا إلى إدماج الصحراء المغربية في إفريقيا الغربية سنة 1920 بدون استشارة الدولة المغربية وملكها مما يجعل هذا الأمر ملغى ومناقضا للقوانين الدولية!
أما من ناحية إسبانيا فقد حاولت منذ القرن الخامس عشر المسيحي احتلال الشاطئ الأطلسي من المملكة المغربية وجزر كانارياس “الخالدات” القريبة منها… وقد وقع تنازع بين البرتغاليين والاسبانيين حول هذه المناطق… ثم تم اتفاق “الكروسوباس” تعترف بمقتضاه اسبانيا للبرتغال بحقه في العمل على احتلال مملكة فاس وشاطئ غينيا… ويعترف البرتغال لاسبانيا بحقها في احتلال الجزر الخالدات. ثم لم يلبث النزاع أن قام بين الدولتين من جديد، فقد كان مغامر اسمه “ديكو كارتيلي أريرا”، نزل سنة 1476 بقلعة مغربية جنوب أكادير سماها “سانتا كروز دي مار بيكينيا” أي الصليب المقدس للبحر الصغير، ومنها ربط اتصالا تجاريا بجزر كانارياس… فغضب البرتغال لذلك ورفع الأمر للبابا التي حكم بين الدولتين الاستعماريتين وبين لكل واحدة ما يجب أن تحتله من التراب المغربي… ووقعا اتفاقية “سنترا” سنة 1508 اعترفت اسبانيا فيها للبرتغال بأحقيته في احتلال الشاطئ المغربي باستثناء قلعة “سانتا كروز” – وفي سنة 1524 هجم الاسبانيون على “سانتا كروز دي مار بيكينيا” ولكن القوة التابعة للجيش الملكي ردتهم على أعقابهم.
وفي أواخر القرن السابع عشر همت اسبانيا من جديد بمحاولة احتلال قلعة سانتا كروز دي مار بيكينيا ولكنها لم تجد المتطوعين بسبب الانهزام الأول، ثم في سنة 1766 أرسل الملك كارلوس الثالث سفارة إلى ملك المغرب سيدي محمد للحصول على إذن النزول بالقلعة المذكورة… فرفض ملك المغرب كل تنازل عن سيادته بهذه النقطة وكل أذن باحتلالها من لدن أية دولة أجنبية، وقام بعده الملك كارلوس الرابع بمحاولة أخرى ولكن الملك مولاي سليمان وقف نفس موقف سيدي محمد ولا يعترف إلا بحق صيد السمك في المياه الإقليمية المغربية المواجهة لجزر كانارياس.
وقد كان الشيخ بيروك ممثلا للسلطة المركزية بفاس، يرد كل المحاولات الأجنبية… وكان آنذاك شديد القوة واليأس!
هذا وفي منتصف القرن التاسع عشر، طالب الاسبانيون بحق الصيد وفي إنشاء معمل خاص بالسمك على الشاطئ المغربي ولم يطالبوا قط بالسيادة على تلك المنطقة ولم يتنازل المغرب لهم قط عن تلك السيادة الشيء الذي تؤكده معاهدة تطوان 1860.
وقد تابع الاسبان محاولاتهم لاحتلال إيفني وما حواليها حتى تم لهم ذلك باتفاق مع فرنسا ولكن بدون موافقة المغرب حيث أن السلطان عبد الحفيظ لم يصادق على تسليم بقعة من التراب ولو من أجل إنشاء معمل للصيد!
وعندما أسس الانجليزيان قبل ذلك مراكز تجارية في طرفاية وأيت باعمران كان رد فعل السلطان مولاي الحسن الأول شديدا للغاية وفي سنة 1886 وصلت فيالق مغربية إلى كولميم.. فخرج ماكنزي وكروتيس من طرفاية التي عاد إليها الاسبان بعد ذلك ثم انتزعها المرحوم جلالة الملك محمد الخامس كما عادت إيفني إلى أحضان الوطن بفضل حنكة صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني الذي لا زال وكافح لاسترجاع الصحراء المغتصبة الساقية الحمراء ووادي الذهب..
وبالرغم من الروح القبلية التي يشجعها الاستعمار… فإن سكان الصحراء يفضون بالإجماع الشكلية الجديدة للسيطرة الاستعمارية التي تحاول اسبانيا أن تفرضها عليهم ويعتبرون مستقبلهم في الانضمام إلى باقي تراب المغرب المحرر لترابطهم به روحيا وتاريخيا منذ القدم – وأن كفاح الملك والشعب من أجل استرجاع الصحراء هو نضال من أجل الوحدة واسترجاع الحدود الطبيعية للمملكة المغربية والوقوف في وجه المستعمر حتى لا يقتطع جزءا يفرض عليه استقلال مزيفا ليس له من مؤهلات الاستقلال إلا الاسم، وذلك رغبة في الاستنثار بخيرات الصحراء، وكنوزها الطبيعية.
ومن أجل فضح هذه الأساليب الاستعمارية تأسست بعثات الود والصداقة وتوجهت إلى مختلف القارات للتعريف بأحقية المغرب في مطالبه وتوضيح مختلف مراحل هذه القضية من الوجهة الدينية والتاريخية والجنسية – وكان جلالة الملك الحسن الثاني قد أسند إليهم مهمة شرح قضية الصحراء شرحا دقيقا وعميقا وتقديم ما يتوفر عليه المغرب من وثائق وحجج وخرائط تثبت تبعية الساقية الحمراء ووادي الذهب للدولة المغربية – وتجاوبت مختلف الأقطار مع وجهة نظر المغرب وأيدته لما اقترح ملك البلاد استشارة محكمة العدل الدولية حول وضعية الصحراء قبل الاحتلال الاسباني.
ولا عجب، فقد روث الحسن الثاني عن أجداده العبقرية والبطولة والشهامة حيث نجد عهده الزاهر مليئا بالأعمال الجليلة والمنجزات العظيمة والمبادرات الأصلية… وإذا أخذنا صفحات هذا العرش العلوي المجيد لنجلو ميزاته الإنسانية ونتفهم إلى أي مدى اتسعت أعماله الإصلاحية، وامتدت أطر مجاهدية الكبرى إلى آفاق إنسانية عليا، فإننا نجد البطولة في أروع صورها تجلوها كل حركة قادها ملوك هذا العرش من المولى علي الشريف إلى الحسن الثاني.. ونرى المجد الإنساني الباذخ والسمو الروحي الأمثل الذي يتعالى في مقاصده عن المدارك والأهواء الضيقة هو الذي يؤلف سلسلة ذهبية لهذا العرش.
وأن عظمة هذه الدولة.. وملوكها هم بناة صفحاتها التاريخية ليقفون بين تواريخ كثير من الأمم موقف التحدي في كثير من صور البطولة والشهامة، وفي كثير من مناهج العمل والإخلاص… فالشعب المغربي وهو يحتفل بعيد العرش المجيد بكرم عبقرية فذة من تلك العبقريات التي لا تزور العالم إلا نادرا وفي فترات متباعدة من التاريخ.

عن دعوة الحق
العدد الأخير
الأرشيف
الكتاب
المواضيع