قصر أيت بن حدو المغربي: جوهرة تاريخية وعمرانية

الرباط ـ «القدس العربي»: يحيلك تأمل الصور المنتشرة لقصر أيت بن حدو، على عدد من الأعمال السينمائية التي صورت به، فتتذكر «لورانس العرب» و «لعبة العروش» و «غلادياتور (المصارع)» و «المومياء» وغيرها من الأفلام التي بصمت على حضور مميز في تاريخ الفن السابع.

وتشير تسمية «القصر» إلى مجموعة من المنازل المغربية العتيقة التي يحيط بها عادة سور شاهق.
ومن ثم، فقصر أيت بن حدو الذي بُني على هضبة مرتفعة تبعد عن مدينة ورزازات بـ 30 كيلومترا، قرية محصنة تشكل رمزا للثقافة الأمازيغية والعمارة الطينية جنوب شرق المغرب، في انسجام تام مع البيئة الطبيعية.
تلك الأصالة التي تميز قصر أيت بن حدو، هي التي أثارت انتباه المخرجين وصناع السينما في العالم، كما هو الحال مع «هوليوود أفريقيا» مدينة ورزازات التي صارت أشهر من نار على علم في مجال السينما.
لكن القصر الشهير ليس مجرد مشاهد سينمائية أو أستوديوهات طبيعية، هو امتداد تاريخي لمعلمة تم تصنيفها كتراث عالمي من طرف اليونسكو سنة 1987 ومجرد النظر إليه ولو بشكل عابر، يأتي الجواب على السؤال الذي قد يطرح: لماذا هذا القصر بالذات؟
الجواب المرتبط بالعين المجردة، يتجلى في المعمار العريق والأسوار والأبواب وكل تلك الملامح العمرانية التي تميز هذه المعلمة، أما الجواب المعرفي التاريخي فنجده في معلومات وافية تسير بها كبريات المواقع المتخصصة والمجلات ذات الصلة بالتاريخ والسياحة أيضا.
نحن في حضرة الجمال التاريخي الذي يفتح أمامنا بوابة تاريخية نتعرف من خلالها على ما صنعه السلف، ليترك لنا تحفة فنية عمرانية أصبح اسمها على لسان كل عاشق للتاريخ، وصناع السينما أيضا لهم نصيب من هذا العشق، فقد عثروا على مكان يحتضن أحلامهم بصناعة أفلام خالدة.

تصنيف جديد بعد اليونسكو

قصر أيت بن حدو المصنف من طرف منظمة «اليونسكو» تراثا عالميا، يقع على السفوح الجنوبية لجبال الأطلس الكبير في إقليم ورزازات، وهو أشهر قصور وادي أونيلا، حيث الأمكنة تشكل مقدّمة لفضاءات الصحراء الشاسعة، دون أن تتخلى عن نصيبها من بهاء الخضرة والمياه. ويعد قصر أيت بن حدو مثالا بارزا على العمارة الجنوبية المغربية، يضم العديد من المنازل، بعضها بسيط، والبعض الآخر يشبه القلاع الحضرية الصغيرة بأبراجها العالية، مزينة في الجزء العلوي بأنماط زخرفية من الطوب الخام.
لا يبدو أن أقدم الإنشاءات ترجع إلى ما قبل القرن السابع عشر، على الرغم من أن بنيتها وتقنيتها انتشرت منذ فترة مبكرة جدًا في وديان جنوب المغرب؛ وفق تقرير لليونسكو الذي يوضح أيضا أن ذلك الموقع كان أحد المراكز التجارية العديدة على الطريق التجاري الذي ربط السودان القديم (السنغال حاليا) بمراكش عبر وادي درعة وممر تيزي نتيلوت.
من الناحية المعمارية، يظهر هيكل القصر على شكل تجمع مدمج ومغلق ومرتفع. تتكون الأماكن العامة للموقع من مسجد، وساحة عامة، ومناطق لدرس الحبوب خارج الأسوار، وحصن ومخزن حبوب في أعلى القرية، ونزل، ومقبرتين (إسلامية ويهودية) وضريح سيدي علي أوعامر.
بعد تصنيفه من طرف اليونسكو تراثا عالميا، جاء تصنيف آخر ليضع قصر أيت بن حدو في موقع متمز عالميا، ويتعلق الأمر بأكثر القرى جمالا في العالم، وهو الذي أصدرته «فارأواي فورنيتشر» لتحتل الرتبة 12 وتكون بذلك من بين أفضل 20 قرية عالمية.
ويبدو أن قصر أيت بن حدو الواقع في الجنوب الشرقي للمغرب يتقاسم مع مدينة شفشاون في الشمال، النجومية على منصات التواصل الاجتماعي، والحديث هنا عن إنستغرام، فهو أحد الأسباب التي جعلت التصنيف سالف الذكر، يضع القرية من بين الـ 20 الأكثر جمالا في العالم، هي الشعبية العالمية وأساسا موقعها في جبال الأطلس وتاريخها المتمثل في العمارة التي شيدها الإنسان والمناظر الطبيعية التي وهبها الله لها.
القرية العتيقة التي تدخل في باب القصبات أو القصور كما يصطلح عليها في منطقة الجنوب الشرقي للمغرب، شهرتها تتمركز حول أصالتها من جهة ونمط البناء الذي شيدت به وهندستها المبهرة، والتي كان الطين عنصرها الأساسي، لتتشكل سلسلة من المباني المتراصة والمترابطة تتخللها أزقة صغيرة وضيقة يعبر منها العاشق من الزمن الحاضر إلى تاريخ تليد.
من بعيد يبدو القصر مثل زهرة تفتحت في وسط الصحراء، وتحيل على جمال الحميمية المغربية التي كانت وما زالت تميز المجتمع المغربي المترابط والذي لا يقبل عن التواصل العائلي بديلا أبدا، وقد تتشابه وتشابك القصبات والقصور في الجنوب الشرقي مع المدن العتيقة في كبريات الحواضر المغربية، فتجد الأزقة ذاتها بضيقها الذي يفضي إلى رحابة المباني داخليا.
أما التصنيف الحديث الذي جعلها من بين أجمل القرى العالمية إلى جانب القديم لليونسكو الذي جعلها تراثا عالميا منذ سنة 1987 فيجد أسباب نزوله في مميزاتها العمرانية موقعها وصمودها في وجه التغيرات الزمانية لتكون حاضرة على زمن الحداثة من خلال شرفة الأصالة تطل على كل ما هو جديد ولا تغادر موقعها في السبق الحضاري والمعماري، الذي سمته الأساسية هياكل عالية شيدت بالطوب الأحمر وهو اللون الأثير في منطقة الجنوب الشرقي.

نظرة عن كثب

إحدى الصور المتداولة بكثرة يبدو فيها جمع غفير من الممثلين في «لعبة العروش» وهم يقفون على أبواب قصر أيت بن حدو، هذه الصورة تعطينا لمحة مختصرة على المكان الذي هو عبارة عن تجمع سكاني لبنايات عتيقة شيدها السلف في منطقة ورزازات والجنوب الشرقي عموما بالطين، يحيط بها سور كبير هو درع الدفاع عنه، تعتليه أبراج للمراقبة، ميزته الأساس هي البساطة والقوة في الوقت نفسه والهندسة الجميلة التي تتحول إلى لوحة عمرانية حية.
ويحتل قصر أيت بن حدو موقعه في قائمة مواقع التراث العالمي لليونسكو، بقوة الأصالة والأقدمية، ولكونه يعتبر نموذجا «أصيلا للعمارة المحلية بمناطق الجنوب الشرقي، كما أنه شاهد حي على الحياة الاجتماعية والخصوصيات الثقافية للساكنة» وفق تعريف إحدى الموسوعات العالمية.
التركيز على الطابع المعماري والعمراني، هو اللافت في مميزات القصر، ويقف أمامنا التخطيط العمراني، حيث يتماشى مع الظروف الاجتماعية والبيئية للمنطقة، ويأخذ بعين الاعتبار عوامل أساسية منها ما هو طوبوغرافي إلى جانب حركة الشمس والرياح، ناهيك عن الحياة الاجتماعية.
بالنسبة لموقع القصر الواقع في تراب إقليم ورزازات وهي المدينة الشهيرة بهوليوود أفريقيا، ففي حد ذاته تحفة، من الهضبة التي يقف فوقها شامخا إلى المزارع التي تحيط به، مرورا بتوزيع المباني المطلة كشرفات، والأزقة ضيقة والطرقات المتعرجة التي تتخذ شمل المنحدرات أو سلالم «أدراج».
القصر يوفر لساكنته حماية جميع ممتلكاتهم، كما يمنحهم تهوية وإضاءة طبيعية إلى جانب تجنيبهم تجمع مياه الأمطار داخله باعتماد هندسة تسهل مرورها وتوجيهها نحو المناطق الزراعية.
وتبقى تلك المناظر الأخاذة التي يملأ بها الزائر عيونه من الشرفات واحدة من بين المشاهد التي لا يمكن أن تتكرر، والأسطح والنوافذ تجعل ذلك الحلم ممكنا وتلك المشاهد راسخة في لحظة تأمل.
من بين حالات الإبهار التي يوفرها قصر أيت بن حدو، على مستوى هندسته، أنه يمنح المباني داخله إضاءة طبيعية حيث تزورها الشمس من كل واجهاتها، وهو الشيء نفسه مع الطرقات والأزقة التي تمر من خلالها الرياح وفق مسار موجه سلفا.
إلى جانب التخطيط العمراني، يأتي الطراز المعماري للقصر، والذي يتميز باستعمال الطين والخشب كأساس للبناء والتشييد، ليكون الطين جدارا والخشب سقفا، أما داخل البنايات، فهي عبارة عن منازل بفناء داخلي، وتبدو كل البيوت متشابهة واحدة منها يتميز عن البقية وهو «دار أمغار» وهو المنزل الذي يأوي عائلة شيوخ القبيلة، وبه عدة طوابق بفضاءات عديدة تتوزع عبر غرف متصلة فيما بينها، يتوسطها فناء داخلي إسوة ببقية المنازل.

السينما في قصر أيت بن حدو

بالنسبة للحضور السينمائي للقصر، فقد تجسد في العديد من الأفلام الخالدة، وكانت الصناعة السينمائية العالمية تختار هذا المكان بموقعه وعمرانه الآسر لتخلد وجودها بتحف فنية ما زالت حاضرة في ذاكرة الفن السابع.
ونذكر على سبيل المثال، فيلم «لورنس العرب» التاريخي الذي صور سنة 1962 وأخرجه ديفيد لين وبطولة بيتر أوتول في دور لورنس مع أليك غينيس الذي يلعب دور الأمير فيصل، كما كان من بين أبطاله النجم عمر الشريف، جاك هاوكينز، أنتوني كوين، أنتوني كويل، كلود راينس وآرثر كينيدي. كتب السيناريو روبرت بولت ومايكل ويلسون.
وتعود السينما إلى قصر أيت بن حدو سنة 1988 من خلال فيلم «الإغراء الأخير للسيد المسيح» الذي أخرجه مارتن سكورسيزي، ومن تأليف نيكوس كازانتزاكيس، وسيناريو بول شريدر، وبطولة ويليم دافو، وهارفي كيتل، وبول جريكو، وستيف شيل، وفيرنا بلوم، وباربرا هيرشي.
وفي سنة 1999 احتضن القصر أحداث فيلم «المومياء» من بطولة النجم توم كروز، وإخراج أليكس كورتزان، كما كانت مسرحا لأحد أكبر الأفلام وهو «غلادياتور (المصارع)» وهو من اخراج ريدلي سكوت وبطولة النجوم راسل كرو، وخواكين فينيكس، ووكوني نيلسن.
ومن الأفلام الخالدة أيضا نجد فيلم «الاسكندر الأكبر» إنتاج سنة 2004 من إخراج أوليفر ستون، وبطلة كولين فاريل، وأثار جدلا واسعا بسبب رؤية الكاتب والمخرج معا لشخصية الاسكندر الأكبر.
إلى جانب السينما، الدراما التاريخية كان أيضا لها حضور في القصر ومنها مسلسل شهير جدا وهو «لعبة العروش» الذي صور سنة 2011 وحقق نسبة متابعة عالية جدا حيث كان العالم يترقب حلقاته بشوق.

بين الأمس واليوم

تحتفظ القصبة بإشراقتها المستمرة وتربط الماضي بالحاضر، وتفتح أبوابها أمام صناع الفن السابع وأمام الزوار عشاق التميز، وتحكي تاريخها حين كانت تلعب دورا كبيرا في التجارة الصحراوية بالجنوب الشرقي للمملكة المغربية، وتحتفظ بفتنة المكان كـ «جوهرة العمارة الترابية» وفق وصف موقع «ورزازات سيتي» الذي أفاد في ورقة عن القصر، بأنه قرية مجتمعية و«تحفة رائعة تتناغم مع بيئتها الطبيعية والثقافية» وتم بناؤه «من التربة الوردية، على تل بوادي أونيلة» تميزه «أسواره وجدرانه الدفاعية المعززة بأبراج مزينة برموز أمازيغية».
وكان القرن 17 هو تاريخ بنائه، وشكل مركزا «تجاريًا مهمًا على الطريق التجاري الذي ربط السودان بمراكش عبر وادي درعة وتيزي نتلوات» و«لا يزال القصر عامرا، رغم أن معظم المنازل صارت معارض فنية أو متاجر حرفية. يبذل مركز صيانة وترميم وتأهيل القصور والقصبات في أطلس جهودًا كبيرة لإعادة تأهيل القصر والإبقاء على رونقه الأصيل. كما تعمل بعض الجمعيات المحلية على إغناء هذا الموقع الأثري» يوضح موقع «ورزازات سيتي».

متعة

الأكيد أن الزائر لقصر أيت بن حدو لن يخيب أمله، حتما سيجد الكثير من المتعة والروعة وسيختزن الكثير من الذكريات ليرويها في المقبل من يومياته ويتركها خلفه، وسيجد أبطالا ونجوما من عالم الفن السابع وهم يتجولون إلى جانبه، قد يكون توم كروز أو راسل كرو أو كولين فاريل أو عمر الشريف، وقد يستحضر كل حلقات مسلسل «لعبة العروش» والأكيد أيضا، أنه سيعيش لحظة حاضرة بنكهة تاريخية أصيلة ولحظة لن تنسى.
ANAHDA INTERNATIONAL TV