مدينة العرائش المغربية جوهرة المحيط ومعشوقة التاريخ وكبار الكتاب العالميين

الرباط ـ «القدس العربي»: أول ما يشد زائر مدينة العرائش الهادئة، انها جمعت أسماء كبيرة في عالم الثقافة والفكر والأدب حول محبتها وعشقها وتفضيلها على باقي الحواضر المغربية؛ فهي المكان الذي بدأ فيه صاحب رواية «الخبز الحافي» الأديب المغربي الراحل محمد شكري دراسته، كما كانت حضنا للشاعر المغربي محمد الصباغ، وهي أيضا مدينة المسرحي الرائد عبد الصمد الكنفاوي ويقفز إلى الواجهة اسم أجنبي اختار أن يكون عرائشي المحيى والممات وهو الكاتب جان جينيه الذي عاش السنوات العشر الأخيرة من حياته بها وأوصى أن يدفن تحت أرضها، وضمت أيضا جثمان الأديب والباحث خوان غويتيسولو، ناهيك عن العديد من الأسماء التي عبرت من تحت سمائها وافترشت أرضها وفضلت البقاء فيها إلى الأبد.

السؤال الذي يحير الجميع، لماذا تضم مدينة صغيرة وهادئة جدا كل هذه الأسماء المغربية والعالمية لأعلام الثقافة والفكر والأدب؟
الجواب بسيط، لا يمكن تحديده مبدئيا إلا بالعواطف الإنسانية المرتبطة بالنبض الخاص لكل شخص، لكننا حتما سنجدها في هذه الإطلالة على المدينة وتاريخها ويومياتها وكل تفاصيل المعيش الظاهر والباطن منه.

جوهرة المحيط

أبناء مدينة العرائش ميزوها عن باقي مدن المغرب بلقب توافق مع موقعها، فكانت «جوهرة المحيط» كما هي طنجة «عروسة الشمال» وتطوان «الحمامة البيضاء» تلك ألقاب تنبع من القلب العاشق، وتحمل في ثناياها الكثير من النبض الصادق.
الألقاب بوابة مفتوحة وموجزة لما يميز المدينة، فهي الواقعة بين طنجة وتطوان تبعد عن الأولى بـ 85 كيلومترا وعن الثانية 105 كيلومترات، وترخي بهاءها على ساحل المحيط الأطلسي، كما لها موقع مميز آخر وهو وجودها على الضفة اليسرى لواد لوكوس، وهو الموقع نفسه وبالضبط عند مصب النهر الشهير، حيث توجد أطلال ليكسوس، المدينة الفينيقية التي استوطنها القرطاجيون قبل أن تتحول فيما بعد إلى مستعمرة رومانية وجزء من مقاطعة «موريطنية الطنجية» وفق ما تفيد به مراجع تاريخية.
المدينة المغربية التي سنتجول في أرجائها خلال هذا الاسطلاع، تعتبر من مدن السياحة التاريخية، بسيطة ببنايات تعود إلى حقب مختلفة منها المعمار الأندلسي، ناهيك عن المآثر الكثيرة والمهمة التي تجعلها قبلة عشاق العيش في كنف التاريخ مجسدا في الأطلال والأسوار والبنايات وحتى ملامح الشوارع وهواء المدينة.
الحقيقة أن محاولة الإلمام بتاريخ المدينة يلزمه الكثير من الحبر والورق، أو بلغة الحداثة الكثير من الرقانة على الكمبيوتر، لذلك يكفينا هنا الإشارة إلى التاريخ البعيد نوعا ما أولا حين كانت العرائش تحت الحكم الإسباني من 1610 إلى 1689 والقريب في فترة أخرى من 1912 إلى 1956. بالنسبة لمرحلة الاستعمار الإسباني الأولى فقد جاء تحريرها على يد الملك العلوي مولاي اسماعيل.
من الفينيقيين إلى القرطاجيين ثم الرومان ووصولا إلى اطماع الإسبان والبرتغاليين، نجد أن العرائش كانت هدفا لمختلف الحملات الاستعمارية التي تعاقبت عليها طيلة قرون، لكونها تتميز بموقع استراتيجي شمال المغرب، وكانت الحصن الأساسي لصد هجمات الغزاة في كل فترات التاريخ.

مدينة بأربع حقب

العرائش هي أيضا مدينة الحقب الأربع، فينيقية وقرطاجية ورومانية وإسلامية، وكانت هدفا للغزوات الإيبيرية، لكن ملوك المغرب أولوها عناية خاصة، وعرفت في مرحلة حكم الدولة المرينية ازهارا كبيرا.
هذه المدينة التي تتمتع بمناخ البحر الأبيض المتوسط رغم تواجدها على ساحل المحيط، صيفها حار ومشمس وشتاؤها ممطر، مياهها عذبة وطبيعتها ساحرة تجمع بين الجبل والبحر والغابة، صيد السمك متوفر والثروة مهمة في هذا الجانب كما هو الحال بالنسبة للفلاحة.

جولة خفيفة

تستهويك المدينة منذ أن أول وهلة، تلك البنيات الشاهدة على الماضي والحاضر، تفتح شرفة الأفق أيضا، وأول ما يلفت انتباهك هي المنازل المحيطة بساحة المدينة القديمة المسماة «بلاصا إسبانيا» والتي جاءت على نمط المعمار الأندلسي البديع، الساحة منها يتفرع السوق القديم وهو عتيق جدا، ويبدو ذلك من بنائه الذي يشد السائح إليه ببهائه المعتق.
العرائش لا يتوقف سحرها عند البنايات التاريخية والمعمار البديع خاصة في شقيه الأندلسي والمغربي، بل تجذب إليها عشاق الرمال الذهبية من خلال شواطئها الجميلة، هذا السائح ودون عناء في التنقل إلى مدينة أخرى يجد أيضا المناطق الجبلية، ولن ننسى النصيب الأوفر للمعالم الأثرية العتيقة الشاهدة على مرور حضارات، ونذكر هنا موقع مدينة ليكسوس وأطلالها الباقية التي تدل على من استوطنها من الفينيقيين والقرطاجيين وبعدهم الرومان.
تلك الجولة السياحية تقودنا إلى بناء الكوماندانسيا الذي شيده السلطان العلوي مولاي إسماعيل عندما استرجع المدينة من الأسبان خلال الحملة الأولى واتخذه قصرا له.
هذا البناء نفسه سوف يتحول إلى مقر للحاكم العسكري الاسباني إبان الحملة الثانية على العرائش، لكنه اليوم مبتور من أهم ملامحه والمتمثل في الساعة الكبيرة التي يحكي المؤرخون أن الإسبان أخذوها وهم يغادرون المدينة.
زواج الحقب التاريخية في العرائش يبدو جليا من خلال تواجد حي القصبة قرب المتحف الأثري ومسجد الأنوار مباشرة خلف بناء الكوماندانسيا.
إلى جانب ذلك، نمر خفافا على حديقة الأسود ونبحر في شاطئ رأس الرمل ونشتري بعض المشتهيات من السوق الصغير، أما الشاطئ فيبلغ طوله 5 كيلومترات، وما يميزه هو وجود حاجز صخري للأمواج طوله 750 مترا، طبعا على هذا الشاطئ نجد مطاعم، إبداعها الأساسي هو طاجين السمك وشواية السردين، وهذه الأخيرة تميز ميناء المدينة.
وبخصوص حديقة الأسود، فهي تضم مجموعة من التماثيل الضخمة للأسود، ونصل إلى السوق الصغير الذي أمر ببنائه السلطان محمد بن عبد الله، وموقعه في قلب المدينة أي وسطها وتجد فيه ما لذ وطاب من خضر وفواكه ولحوم وحتى الملابس.

ليكسوس الأثرية

يكاد التاريخ الخاص لمدينة العرائش أن يغطي على تاريخ مدينة أثرية بجوارها وهي ليكسوس، لكن هذه الأخيرة تظل حاضرة في زيارات السياح الأجانب والمغاربة على حد سواء، الجميع يريد أخذ نصيبه من بهاء التاريخ.
ليكسوس، تبعد ما يقارب 3 كيلومترات عن مدينة العرائش، وتفيد المراجع التاريخية أنها شيدت سنة 1180 قبل الميلاد على يد أحد ملوك الأمازيغ، واستوطنها كما أسلفنا الفينيقيون، وبعدهم القرطاجيون ثم الرومان، وكانت جزءًا من مقاطعة موريطنية الطنجية، وتضم مسرحا مدرجا، ومنزل إله الشمس ومعبدين وحي قصر العدالة. بالنسبة لمساحتها فتقدر بأكثر من 75 هكتارا، وبنيت على الضفة اليمنى لوادي اللوكوس من المدخل الشمالي لمدينة العرائش، فوق هضبة تسمى التشوميس، يناديها أهل المنطقة الشميش، تطل على الساحل الأطلسي على علو 80 مترا.
إلى جانب ما سبق ذكره، نجد ليكسوس تضم أيضا مجموعة من بقايا المساكن والقصور ذات الأعمدة الضخمة وأرضيتها المزينة بالفسيفساء. وبعض أماكن تجفيف وتمليح السمك التي امتاز بها سكان المدينة في تلك الفترة.
في هذه الإطلالة الخفيفة على العرائش، لن يفوتنا الحديث عن نهر اللوكوس الذي ينبع من نواحي شفشاون شمال المغرب، ويصب في المحيط الأطلسي، وهو ثالث أوسع نهر مائي في المغرب، ونجد من روافده وادي المخازن بحمولته التاريخية العظيمة.
جولة على الأقدام

السائح الزائر لمدينة العرائش يجد نفسه أمام كتلة من البهاء الذي يجمع التاريخ مع الحاضر ويستشرف المستقبل، فالمدينة ذات الطابع المغربي والإسباني لها خصوصيتها المعمارية التي تتجلى في الهندسة الأندلسية الحاضرة إلى يومنا هذا.
جولة السائح تبدأ من وسط المدينة التي تسمى حاليا ساحة التحرير، ثم السوق المركزي وكل ذلك عبر أزقة ضيقة وبوابات شهيرة نذكر منها باب القصبة، وباب البحر، وباب القبيبات، أما المساجد العتيقة فنجد على سبيل الذكر لا الحصر الجامع الكبير الذي تم بنائه في القرن 13م.
شاهد آخر على عراقة المدينة ومآثرها المتعددة، هو المتحف الأثري، الذي شيد سنة 1279 ميلادية على يد السلطان المريني يوسف بن عبد الحق المريني على شكل قلعة، ويقع خلف حي القصبة ويجاور بناء الكوماندنسيا.
المتحف الذي تحول إلى مخزن لحفظ الأسلحة في مرحلة استعمار الإسبان للمدينة، يضم كل الآثار الشاهدة على حضارة المدينة خلال فترة الرومان والفنيقيين والإغريق ثم الإسلام بعد ذلك.
ولإعطائه وضعه الاعتباري الذي يليق به، تم اعتماد المتحف الأثري سنة 1973 وتوجد به التحف والآلات الحربية والأواني الفخارية التي تحيلنا مباشرة على الحضارات التي تعاقبت على العرائش.
لن ننسى في جولتنا هذه أن نعرج على حصن الفتح الذي تؤكد الروايات التاريخية، أنه كان قصرا للمولى اسماعيل وتحول إلى قلعة للمقاومة المغربية، كما كان في فترة الاستعمار الإسباني مستشفى، ومنه نمر إلى برج اللقلاق، وتشير المصادر التاريخية إلى أنه كان صرحا عسكريا قديما واسمه في البداية برج النصر، توثيقا للهزيمة التي ألحقها المغاربة بالبرتغاليين في معركة وادي المخازن الشهيرة، ودائما حسب المؤرخين، فقد تم تشييده من طرف السلطان احمد المنصور الذهبي ليخلد ذلك الانتصار العظيم. أما عن تسميته ببرج اللقلاق فتعود إلى كون هذا الطائر سكنه طيلة سنوات فارتبط به.

مرقد كبار الكتاب

كما أشرنا في مستهل هذا الاستطلاع، فإن مدينة العرائش شهيرة بكونها مهوى كبار الكتاب والأدباء وشهدت بدايات بعضهم كما احتضنت بعضهم الآخر ومنهم من فضل البقاء فيها حيا وميتا مثل جان جينيه.
الجميع يذكر، أن جثمان الأديب العالمي الإسباني خوان غويتيسولو دفن بالمقبرة الكاثوليكية في مدينة العرائش، حيث يرقد صديقه الشاعر والروائي والمسرحي الفرنسي جان جينيه، منذ سنة 1986.
ويذكر الجميع أن جنازة غويتيسولو، كانت حديث وسائل الإعلام العالمية وحضرتها وفود جد مهمة من المغرب وإسبانيا، على اعتبار أن الرجل من ألمع الكتاب والمؤلفين والباحثين العالميين والذي كان قد استقر بمراكش لكنه أوصى ان يدفن في العرائش.
خوان غويتيسولو كان قد أوصى، من قبل، بدفنه بمقابر المسلمين في مراكش، سنة 1996.
إلى جانب من أنهوا حياتهم في مقابر العرائش مطمئنين، نجد محمد شكري الكاتب المغربي الشهير صاحب رواية «الخبز الحافي» الذي كانت أولى فصوله الدراسية فيها، كما ان الشاعر محمد الصباغ عاش بها ولها، أما المسرحي الرائد عبد الصمد الكنفاوي فهو ابن المدينة الذي منحها فسحة شهرة واسعة لدى عشاق المسرح.
تلك بعض ملامح مدينة هادئة وجميلة وتتسع لكل الحلم، وكانت ولا تزال تغري العديد بالإقامة فيها، هو سحر من نوع خاص اسمه الاطمئنان إلى الأرض والعبق التاريخي والحاضر البهي والأفق المفتوح على الإشراق.
ملحوظة لا بد منها: كل المعطيات التاريخية تم استياقها من مصادر متنوعة تاريخية، حتى تكون على بينة من غنى المدينة وروعتها الممتدة عبر قرون خلت وما زالت حاضرة لا تبحث عن الأضواء تكتفي بما لديها من مخزون وإرث وتعيش لحظتها المغربية المميزة.
ANAHDA INTERNATIONAL TV PAR OMAR